د. محمد عبدالله العوين
بعد فراره أو تهريبه من الموصل إلى مخبأ خفي قد يكون في الرقة عاصمة خلافته المزعومة تاركاً أتباعه وأبناء الموصل يُواجهون مصيرهم المحتوم بثَّ أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» خطابه الأخير - كما يبدو - مستجمعاً طاقاته وقدراته الفقهية واللغوية ومستقصياً ما يمكن أن يتقوى به أو يدعم به صمود أتباع خلافته المزعومة الذين هرب وتخفى بعيداً عن أزيز الطائرات وراجمات الصواريخ وتركهم يختبرون إيمانهم وقناعاتهم بحتمية الانتصار «المأمول» الذي ينتظره البغدادي بين لحظة وأخرى يتنزل عليه وعلى أتباعه ليقيم «دولة الخلافة» حسب مقاييسه ووفقاً لأيدلوجيته التي لا تُبقي ولا تذر على وجه الأرض من لا يسلم له القياد ويذعن لزعامته طوعاً أو كرهاً وينضوي تحت لواء إمبراطوريته التي يحلم بها ممتدة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب هادمة ومبيدة وساحقة كل الحضارات الإنسانية القائمة والمهيمنة على العالم؛ فلن يكون على وجه الأرض بيرق ولا قوة نافذة متحكمة يذعن لها البشر إلا «دولة الخلافة» المزعومة!
استجمع طاقاته في خطابه الوداعي الأخير - كما يبدو - لتبديد غمامة من اليأس تهيمن على المشهد العسكري في الموصل، وساعياً إلى بثِّ روح الصمود والمقاومة في نفوس الأتباع الذين يواجهون الموت المحتَّم من فوق رؤوسهم وتحت أقدامهم؛ بينما خليفتهم يتخفَّى في مكان محصن طالباً النجاة ومكتفياً بترداد شعارات الدولة ومُصراً على ألا تظل أنهار الدم في أرض الشام والعراق فحسب؛ بل لا بد من إراقة مزيد من دماء المسلمين ونشر الخراب في كل مكان يمكن أن يوقد فيه أتباعه حريقاً أو يثيروا فتنة أو يريقوا دماً.
لم يدع زعيم التنظيم مسلماً ولا وطناً من أوطان المسلمين دون أن يصب عليه جام غضبه، ودون أن يخرج أهله وحكامه وعلماءه ومثقفيه وكتّابه وجيوشه من الإسلام؛ فأظهر من لم يذعن لخلافته ولم يقدم فروض الطاعة له ولم يبسط يده له مبايعاً زنديقاً كافراً مارقاً من الدين غير مؤمن بالله ولا برسوله، ومشبِّهاً في خطابه دولته المتخيّلة في الموصل أو الرقة بدولة الإسلام الأولى في المدينة، وواصفاً أتباعه بالمهاجرين والأنصار، وكأن لا فرق بين من لم ينضو تحت لواء دولته وكفار قريش والأحزاب الذين حاربوا وواجهوا دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة.
فنحن أبناء جزيرة العرب وأحفاد الجيوش الإسلامية الفاتحة الأولى ومن نتشرف بخدمة الحجاج والمعتمرين بما نعتز به جميعاً من شرف الانتماء والإيمان برسالة الإسلام الخالدة وبما تزخر به بلادنا من علماء وفقهاء وحفظة لكتاب الله، وما تنهض به قيادتنا من مساعٍ خيّرة مباركة لإقامة حدود الله ونشر الإسلام وحفظ بيضة المسلمين لم ننج من وصمنا بالكفر والضلال، ولم يتورع عن الدعوة إلى قتالنا ونشر الفوضى والدمار في بلادنا ولم يوفر أحداً منا من اتهامه بالمروق والزندقة، متوسلاً بذلك لاستحلال الدماء المعصومة. هكذا بدا زعيم التنظيم يائساً محبطاً منتقماً داعياً إلى إراقة الدماء في كل مكان من هذا العالم، ومصراً على أن يُمكِّن «الأعداء» من تنفيذ خطة «الفوضى الخلاَّقة» كأداة مهمة لتفتيت وتقسيم ديار العرب والمسلمين.