أصبت بصدمة كهربائية وأنا أتخيل كيف تصل شهرتي للآفاق، كيف تستمر وتتمدد كسيرة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، وكيف وصلت هذه الأسماء، كالنابغة وجرير وعنترة وأبو الطيب والخنساء وغيرهم وغيرهم، كيف وصلوا للنجومية، برغم خلو زمانهم من أي وسيلة إعلامية، كيف اشتهرت مدارسهم الأدبية وظلت ثابتة مع تقادم الزمن، كيف استطاع التاريخ حصرهم اسما اسما وحصر أعمالهم الأدبية بتلك الدقة والشمول، وفي الضفة الأخرى ما هو الفرق بينهم وبين شعراء اليوم الذين وجدت صعوبة بالغة في حفظ أسمائهم حتى نال مني التعب وأنا أحاول إحصاء تلكم الآلاف من الشعراء الذين تعج بهم وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية الأخرى، في السابق كان في الميدان شاعر أو عدة شعراء قلائل واليوم كلنا شعراء، الموضوع ليس له علاقة باسم معين بقدر ما هو يبحث عن إجابات للنص الشعري الجيد والشاعر العبقري.
كيف اختلف الذوق والذائقة ولم يعد أحد يهتم -إلا ما قل- أن يكون النص إبداعيا بقدر ما يملأ فراغات الزمان والمكان وحسب تضاعفت الأسئلة عن صناعة النجوم فالشعر أمره محسوم ونعرف من حسمه وهم الشعراء الحقيقيون على مر الأزمان، فكل ما يخرج من فم الشاعر دون أن يحتاج إلى تكلف أو تصنع وبصور بلاغية وبيان، سواء كان وفق ضوابط الوزن والقافية أو بنظام التفعيلة وحقق شروط الإبداع يسمى شعراً، لكن السؤال من يصنع نجوم الورق ويسوقهم، هل يوجد اليوم صناعة للشاعر وهل يوجد حبر مغشوش، هل أصبح الشعر اليوم تجريداً أم تجنيداً، فعندما دخلت عالم النت وجدت الكل شاعراً إلا أنا، وهنا وجه الغرابة لماذا لا أكون أنا شاعرة، بدأت أبحث عني في دهاليز الإعلام وصفوف الجماهير وأوراق الصحف وأروقة النت، فمن يصنع مني شاعرة، من هم الشعراء الحقيقيون، من هم الوقتيون الزائفون، ما هو المقياس الحقيقي الذي يتم الأخذ به لأصنف في قائمة الشعراء ويكتب أمام اسمي شاعرة، أو كاتبة، كيف أصل للمنبر وأعتليه، ويصفق لي الجمهور؟.. سهل وبسيط ما دمت أجد الانحياز التام ربما للشعر الذي يتم قصه ولصقه أو كتب كيفما اتفق، كيف لا ألهب حماس الجماهير وأثير عواطفهم بقصيدة كتبت بوزن وقافية فقط، ولسان حال البعض، قل بيتاً له وزن وقافية تصبح شاعراً يشار إليك بالبنان، أمر آخر من السهولة بمكان فأي قصيدة سرقتها -أقصد قرأتها- أقوم بتغيير بعض الكلمات وانسبها لنفسي، بعد ذلك أتصيد المشهد وأطيح بالمبدعين من طريقي ومن لهم حق بمكاني! من يسوق لمن؟!.. كيف أصنع لنفسي برستيج، من يدربني ويقربني ويدنيني قبل أن انطفئ، من المسؤول ومن السائل.
من هبط بالذائقة، هل هو الشاعر أو الجمهور أو المتلقى أو الإعلام أو أو... هي أسئلة حائرة تحرك المياه الراكدة في عمق مشكلة تتفاقم كل يوم، فالكل أصبحوا شعراء، ولا يقبلون بما دون ذلك، ولكن، ورغم قتامة الصورة إلا أنني متأكدة من أن العالم لا يخلق عالما أو شاعراً إلا إذا كان لديه موهبته ونبوغه، وما كتبته هنا ليس إلا وفاء لمن هم خلف الأضواء، وما عساه سبب تواريهم، هل هو ابتعاد الشاعر لأسباب نجهلها، أو عزوفه عن الأضواء، أو إن ظهوره يحتاج إلى مساومات قد لا يجد نفسه مضطراً لبذلها ودفع ثمنها، أو أنه لا يجيد فن العلاقات فيظلم نفسه والآخرين معه هي تساؤلات كثيرة لا يتسع المقام الآن لذكرها تفصيلاً، بيد أن هذه الفئة المبدعة بصمت وجلال تستحق منا جميعاً أن ندفع بها إلى واجهة التاريخ مهما كانت الأسباب، وتشكر كثيراً تلك المطبوعات النزيهة المنصفة التي تكشف الغث من السمين، والمبدع من المفلس، لأنها تمشي وفق ضوابط راسخة يخرج منها شتى أنواع الأدب وهي العلامة الفارقة بينها وبين باقي وسائل التواصل التي اختلط فيها الحابل بالنابل، فهي لا تصنع أجنحة من شمع أو ورق، بل تصنع ثقافة تخرج علينا بدون تلميع أو زخارف كاذبة، همها الوحيد أن تصنع ثقافة وتاريخاً وأدباً ومدارس تظل باقية ما بقي الزمن، فالكلمة الصادقة قيمة عالية تحرك الوجدان وتخلق المختلف وترتقي بالإحساس وتسمو وتطرب القلب وتدعم الإبداع وتبثه في الأرجاء خالداً مخلداً، وقبل ذلك وبعده هي تنظر إلى الكلمة على أنها أمانة، وليست وسيلة لنجومية وهمية زائفة زائلة، تشتعل وتنطفئ كما النيازك. في الأخير سيظل الجيد يفرض نفسه ويتلظى ولا ينحني للمساومة وسيسقط الساذج ويطفو الجميل ملوحاً بناموس البقاء.
- مريم سعود