أحمد المغلوث
داخل صالون الحلاقة «المحسن» كنا خمسة وسادسنا شيخ كبير. وكنت أنا أصغرهم سنًا جميعنا جاء ليحلق شعر رأسه بالموسى أو تقصيره. وقد اتخذنا أماكننا جلوسًا على دكة طويلة فرش عليها (دوشق) مع مساند جميعها مطرزة بالزهور وكان هذا التطريز والزخرفة سائدين منذ القدم في الأحساء والخليج وحتى الحجاز. وكان نسيم الشتاء القادم برفق يتسلل إلى الصالون من بابه الخشبي المفتوح ويداعب بلطف وجوه بعضنا التعبة من العمل أو من المشوار الذي قطعه كل واحد منّا من بيته وعبر أزقة الفريج وصولاً لمقر الصالون. لم يكن هذا الصالون هو الوحيد في المدينة الصغيرة في الماضي إنما كان متميزًا بوجود أكثر من حلاق داخله مما يتيح لمن يتردد عليه الحلاقة بسرعة.
وهذه أول مرة أشاهد صبيًا يقوم بالحلاقة داخل الصالون. كان فتى ضامرًا وطويل القامة بصورة واضحة ولم تكن الصور والمعلقات والمرايا ذات الطابع الهندي القديم ليست الأسباب الوحيدة التي تشد الجالسين على الدكة في انتظار دورهم للحلاقة وإنما ذلك الراديو الفيلبس الذي تجمد مؤشره على إذاعة بغداد.. فصاحبه «المحسن» عاشق لأغاني «حضيري بوعزيز» وبحكم افتتانه بأغانيه خصوصًا أغنية «حمام يلي على روس المباني» فهو وطوال ساعات عمله في صالونه المميز ينتظر أغاني بوعزيز وبالتالي مكره أخاك لا بطل أن يسمع ويسمع المنتظرون في صالونه كل ما تذيعه إذاعة بغداد من برامج محدودة خلال ساعات إذاعتها المحدودة أيضًا.
كل ذلك يجب أن تتحمله وأنت تنتظر دورك! وفيما كان الجميع يتابعون الأخبار من الراديو قال أحدهم وكانت رائحة «الزفار» التي تفوح من ملابسه الرثة تكاد تطغى على روائح العطور والكولونيا: ما تغير الإذاعة يا شيخ. لقد مللنا من سماع الأخبار يا ليتك تشوف لنا إذاعة توسع الصدر. فالتفت إليه الشيخ وقال باشمئزاز: الأخبار أبرك من اللي تطالب به. واستطرد بضيق: بصراحة ما تخجل على نفسك كيف تطلب مني أغير الإذاعة.؟! فتطلع إليه صاحب رائحة الزفار. وقال لولا أنك كبر أبوي كان رديت عليك بشكل آخر.. صحيح أنك ملقوف. أنا أقصد «المحسن» وقلت له يا شيخ بذرابه. بعدين أنت صاحب الراديو ولا المحسن! فتضايق الشيخ بصورة جعلت يده المعروقة ترتعش. غير أنه عاد فامتلك نفسه. ونهض من مكانه وانطلق خارجًا من الصالون. فدهش الجميع مما حدث ورسمت الدهشة آثارًا على وجوههم. عندها قال الحلاق «المحسن» مخاطبًا صاحب رائحة الزفار: الله يهديك يا ليتك قمت بنفسك وغيّرت الإذاعة. جعلت الشيخ «يطير» من المحل وتطير معاه «فلوس» قص شعره لو كمل جلوسه..؟! فرد الرجل ولا يهمك قيمة فلوس حلاقته أنا أدفعها لك غير ريال أبشر بسعدك. بس الله يخليك دور لنا إذاعه غير. الواحد زهق من الجلسة والانتظار.. فتطلع إليه باسمًا وقال: اعتبر المحل محلك والراديو ملكك قم دور أنت إذاعة يمكن يدك تكون مبروكة ونسمع شيئًا يعجبنا جميعًا.. ولم يصدق الرجل خبر فقام متجهًا للراديو وما أن مد يده ليحرك المؤشر إذا بالمذيع يعلن عن مفاجأة غير متوقعة.. أغنية «حمام يلي» وحضيري بوعزيز راح يصدح بها وسط دهشة الجميع..؟!
* تغريدة:
غرف المرضى في المستشفيات هي المكان الذي بات يتحدث فيه أهل المريض ومعارفه وأصدقاؤه مع بعضهم..؟!