د. إبراهيم بن محمد الشتوي
بل الأبعد من ذلك هو أن بعض الشراح سواء كانوا من شراح القرن الثالث أومن الأجيال اللاحقة لا يلتزمون بتقديم شرح إجمالي للبيت، أي أنهم لا يحرصون على تقديم «المعنى» الذي رآه الشراح اللاحقون العنصر المهم في الشرح، فنجدهم يكتفون بشرح الألفاظ، والوقوف عند سائر العناصر السابقة سوى الشرح الإجمالي، وهو ما يعني أن «المعنى» ليس هو المغزى الحقيقي من الشرح كما يرى الواحدي أو أبو سهل الزوزني، فقد كان التفصيل في الحديث عن الألفاظ، والاستشهاد عليها، وتتبع الروايات يطغى على الحديث عن المعنى، ومن هنا يمكن أن نقول: إن ما أخذه بعض الشراح على أبي الفتح ابن جني لم يكن في الحقيقة خاصا به، بقدر ما كان منهجا عاما عند كثير من الشراح كما أشرت في المقالة السابقة.
ويمكن القول: إن أولئك الشراح الذين أهملوا أو لم يعنوا بالشرح الإجمالي كانوا يرونه «تحصيل حاصل» بعد الوقوف على الألفاظ، والغريب، والاستشهاد عليها، وتتبع الروايات، فكأنهم يتركون تركيب المعنى الأخير للقارئ، خاصة إذا لم يكن في تركيب البيت ما يستعصي على الفهم، والتحليل، أو يخالف ما اعتاد عليه المتحدثون، وكأن هذه العناصر هي أدوات النتيجة الأخيرة، وهي «تركيب المعنى»، فإذا أبانوها، وقدموها للقارئ فقد كملت المهمة التي ندبوا أنفسهم لها، غير منشغلين بالمعنى الحرفي الذي يقع في نفس القارئ.
وكأن في هذا إشارة إلى أنهم يشعرون بأن «المعنى» ليس واحدا، وأنه ربما تغير بتغير طريقة النظر إلى هذه المكونات المختلفة، وضم بعضها إلى بعض، خاصة عند النظر إلى الروايات المختلفة للأبيات، وما تحدثه من تبديل للمعنى يقلبه أحيانا رأسا على عقب، وهذا ما نجده في عرض هؤلاء الشراح لوجوه المعنى المختلفة التي يحتملها التركيب بين الروايات كما لدى ابن السكيت في شعر ديوان الحطيئة، حين يقول عن قوله:
ومنعت أوفر جمعت
فيه مذممة خناجر
«جمعت» تروى بالبناء على الفاعل، وبالبناء على المفعول. يقول ابن السكيت: «فمن روى جمعت [بالبناء على الفاعل] أراد جمعت المذممة في الأوفر اللبن، وهو السقاء الضخم، ومن روى: جمعت [بالبناء للمفعول]، أراد ألبان المذممة، والمذممة نعت للخناجر».
وهذا الاختلاف في تحديد معنى البيت، والوجوه المحتملة نجده واضحا بشكل كبير عند ابن جني الذي يحرص على الوقوف على وجوه المعنى، والمعري، وكذلك الواحدي في شرح المتنبي، حيث يمثل الوقوف على الاحتمالات المختلفة للبيت ظاهرة بارزة في تلك الشروح، وهو ما يؤكد الفرضية السابقة، كما يبين أن الشراح القدماء يؤمنون بقضية تعدد المعنى للبيت الواحد، وإمكانية الفهم المختلف من شارح إلى آخر، ثم إن إيرادهم هذه المعاني متجاورة يوحي أيضا باعتبارهم هذه المعاني متساوية بالقيمة، بما أن البيت يدل عليها. والمعتمد هنا هو التركيب اللغوي بالدرجة الأولى، وما تكشفه. الأمر الذي يدل بدوره على أن «قصد الشاعر»، وما يدور في نيته لم يكن العنصر الوحيد المسهم في تكوين المعنى وبنائه، بدليل هذه المعاني المتعددة.
وإذا كانت هذه المعاني المتعددة لا تتنافى مع «قصد الشاعر» إذ من الممكن أن يكون الشاعر قد أدرك ما يحمله كلامه من وجوه مختلفة قد تتناقض أحيانا، فإن هذا لا ينفي أيضا أن عناية الشراح كانت متجهة بالمقام الأول إلى تركيب البيت اللغوي، وما ينتجه من دلالة، وهو ما يفضي بالضرورة إلى أن «المعنى» صناعة بالمقام الأول، يصنعه الشارح، أو القارئ. هذه الصناعة هي التي كان يسميها القدماء بـ»الدراية»، إذ المعنى لديهم يرد من طريقين: الأول: الرواية، وهو ما يرويه اللاحق عن السابق، والثاني: ما يستنبطه الشارح من تركيب البيت بناء على المعطيات الأدبية المتوافرة لديه، وقد كانت الرواية عند شراح القرن الثالث تتمثل بنقل المعنى عمن سبقهم من اللغوين، والرواية كالأصمعي، وابن الأعرابي، وأبي عمرو بن العلاء، وأبي عمر بن الشيباني، أو الشعراء أنفسهم، وما جمعوه من أخبار تدار في مجالس الخلفاء. والدراية تتمثل بالعناصر المختلفة كالوقوف على ألفاظ الأبيات، ورواياتها المتعددة، وما يساند ذلك أو يخالفه من شواهد شعرية، أو حكايات تبين مناسبة القصيدة، وما قيل حولها، أو المواضع، والأعلام التي ترد فيها، مما يمثل إضاءة عامة للنص، وإحاطة لمجال القول فيه.