فيصل أكرم
وأعني هروبي من (التأمّل) الذي صاحبته مشواراً طويلاً - هو عمري كله - أصافح به الأشياء من حولي وأتوقف عند بعضها معه.. شعراً ونثراً.. حتى وصل بنا الحالُ إلى قسوة أصبح تأمّلها لا يطاق، ولا قصيدة أو مقالة تجدي في تغيير شيء سوى من قسوة إلى قسوة.. فلم أجد بداً من الهروب إلى ذلك المدعو (الفكر) وقد صاحبته فترة غير قصيرة وليست بالطويلة جداً، ولكنها كانت مليئة بالصداع الذي لم يفارقني تماماً حتى بعد غياب طويل عن مطالعة كل الكتب الممعنة في (الفكر) الموصوف عندي بالنقيض المزعج للرفيق الهادئ (التأمّل)!
وهذا هو بين يديّ الآن كتابٌ اسمه (الميتاميزياء) تأليف المفكر اللبناني الصديق حسن عجمي، وقد عرفتُ حسن عجمي في بيروت نهاية التسعينيات الميلادية وكان وقتها يحاول الكتابة ويجرّبها بجدّ في اتجاهات مختلفة، فكتب الشعر (وصدر له ديوان مقام الراحلين، عام 2000) وكتب النقد.. وأذكر أنه كتب عن أحد دواويني في ذلك الوقت كتابة نقدية جميلة نشرها صديقنا الكبير الشاعر إلياس لحود في مجلته (كتابات معاصرة).. كما كتب حسن المقالة الأدبية والثقافية والسياسية والفكرية، وربما وجد نفسه في المقالة الفكرية، فأكثر منها متوغلاً في الدخول إلى مزيد من الدهاليز المجهولة للفكر، فأنتج سلسلة من الكتب الفكرية تبدأ بنصف عنوان موحّد (السوبر) بدأها بالسوبر حداثة (2005) تلاه: السوبر أصولية..ثم: مستقبلية، معلوماتية، تخلّف، مثالية.. وأظنه انتقل بعدها إلى اصطلاحية مركبة من معنيين في كلمة واحدة، مثل: (الميزياء)، (البينياء)، (الضيمياء).. حتى وصوله إلى الكتاب الذي أطالعه الآن (الميتاميزياء) وهو صادر هذا العام 2016 عن الدار العربية للعلوم في بيروت؛ يقول حسن عجمي – المقيم في أميركا الآن - في توصيفه لمعنى عنوان كتابه:
(بالنسبة إلى الميتاميزياء، كل شيء فكرة ولغة، وبذلك لا يوجد تمييز حقيقي بين الحقائق التي تبدو مختلفة. الميتاميزياء فلسفة ما وراء الميزة. من هنا، تعتبر الميتاميزياء أنه لا يوجد ما يميّز الأشياء عن بعضها البعض بل الأشياء تتضمن بعضها البعض تحليلياً. هذا يعني أن العلاقة التحليلية هي التي تحكم تكوّن الأشياء ووجودها. بذلك تدرس الميتاميزياء الكون من خلال علاقاته التحليلية. والعلاقة التحليلية هي التي تتشكّل من جرّاء معاني المفاهيم. فمن خلال معنى مفهوم هذا الشيء أو ذاك تترتب علاقاته مع الأشياء الأخرى ودوره ووظائفه. تختلف الميتاميزياء عن التحليل التقليدي؛ فبينما التحليل التقليدي يحلل المفاهيم ليميّز بين الأشياء، الميتاميزياء تعتمد على تحليل المفاهيم لتوحّد بين الأشياء بدلاً من التمييز بينها..).
ويمضي المؤلف في تسطير فكره بهذه الطريقة التي أعجبتني جداً، ليس لأنني فهمت ما يقصد تماماً، بل لأنها خرجت بي كثيراً عن قراءة الأشياء التي تضجّ من حولنا وأينما وقعت أعيننا نفهم قبل أن نقرأ.. قتلى وجرحى وصواريخ تقذف وبيوت تهدم وبوارج حربية تتكاثر لتغرق الأرض ومن عليها في نيران لا سبيل لإطفائها بالتأمّل، ولا حتى بالكلام.
الهروب إلى الفكر.. إلى التحليل، وتحليل التحليل.. إلى الميزياء ومنها إلى الميتاميزياء هو السبيل الأمثل للهرب من ذلك الضجيج المبتذل من القسوة البشرية الهادمة لكل الأشياء في الكون من أجل مصلحة غير صالحة للبشر ولا حتى الحجر.
الميتاميزياء، برأيي، هي جوهر (الفكر) الذي نحتاجه الآن بالضبط.. لكي نوحّد بين القتيل والقاتل، بتحليل غير تقليدي، بعد أن تعبنا من التحليلات التقليدية المبنية على التأمّلات الأدبية التي ميّزت بين الموت والحياة.
فشكراً لصديقي العزيز حسن عجمي، الذي أمتعني بكتابه الفكريّ الجديد هذا، وتحيتي له.