الخطة البحثية هي ما يقوم به المؤلف, أو الباحث - بعد صياغة فكرته البحثية - من توضيح أهمية الموضوع, وأسباب اختياره, ورسم أهدافه, وتحديد منهجه, وتبيين الدراسات السابقة, ووضع التبويب المناسب الذي سيسير عليه, وهي طريقة درج المحدثون عليها, حتى ظن بعضهم أنها طريقة جديدة من ابتداع العصور المتأخرة, بينما هي في الحقيقة ذات إرث قديم.فعندما نطالع كثيراً من المدونات القديمة - المؤلفات في مجال الأدب والنقد مثالا - لا نعدم وجود خطط بحثية كان لها الفضل, وقصب السبق, في تأصيل هذا المنهج العلمي لدى القدماء, وأضحى ذلك النهج كثيراً وملحوظاً تحت ما كان يُعرف قديماً بـ(خطبة المصنف) أو (فاتحة الكتاب) أو (مقدمة المؤلف) أو نحو ذلك, حيث يقوم المؤلف - بعد البسملة والحمدلة والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم - بعرض فكرته البحثية, ثم صياغة خطته التي يروم من خلالها التصنيف, فيوضح أحياناً أسباب اختياره, وبعض أهدافه, وطريقته في التأليف (منهجه) وتبويبه, والإشارة إلى من سبقه, أو من لم يسبقه (الدراسات السابقة) وقد يهدي الكتاب إلى خليفة, أو أمير, أو وزير, أو نحوه. فمن ذلك أن ابن قتيبة (276هـ) لما ألّف كتابه الشهير (عيون الأخبار) ذكر - مما يمكن عده (سبب اختيار) - ما نصه: «وإني تكلّفت لمغفل التأدب من الكتاب كتاباً في المعرفة, وفي تقويم اللسان واليد؛ حين تبيّنتُ شمول النقص, ودروس العلم, وشغل السلطان عن إقامة سوق الأدب» كما ظهرت الخطة وشرحها جليّة في قوله: «وهو أربعة كتب متميزة, كل كتاب منها مفرد على حدته: كتاب الشراب, وكتاب المعارف, وكتاب الشعر, وكتاب تأويل الرؤيا, فالكتاب الأول...».وبما يشبه (الدراسات السابقة) قال الصاحب بن عباد (385هـ) عند جمعه أمثال المتنبي: «ثمّ إِنْ أَمَرَ - أَعلَى اللهُ أَمرَه - أمليتُ بمشيئةِ الله ما وَقَعَ من الأمثال في كل شِعرٍ جاهلي, أو مخضرم, أو إسلامي؛ فما أَجِدُ منْ عمل في ذلك من الأدباء كتابا مقنعا, أو جمعا مشبعا...». ولعل مما يشبه (أهداف الدراسة) في الخطط البحثية القديمة ما وجدناه في (الصناعتين) لأبي هلال العسكري, حيث يقول: «فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام, فيما راموه من اختيار الكلام, وقفتُ على مَوقِعِ هذا العلم من الفَضل, ومَكانِه من الشرف والنبل, ووجدتُ الحاجةَ إليه ماسّةً, والكتبَ المصنفةَ فيه قليلةً (...) فرأيتُ أنْ أعمل َكتابي هذا مشتملا على جميع ما يُحتاجُ إليه في صَعةِ الكلام, نثرِه ونظمِه». إن الخططَ البحثيةَ قديما مُشابهةٌ لما هي عليه اليوم, فلا نجد اختلافاً سوى في تغيير بعض العناوين, وتحديدها, وتوضيحها, وإنْ تميّزت الخطط البحثية في القديم بشعريتها وبصبغتها الأدبية, بعيدا عن الشكل الذي تسلكه اليوم, ذلك الشكل المصطبغ باللون الأكاديمي, والتقليد المحتذى في أعراف التأليف الحديثة.
- د. فهد البكر