نكمل اليوم - بمشيئة الله- ما تبقى من الجزء الأخير من قصيدة (يا هند) للشاعر فرحان العنزي، فقد توقفنا الأسبوع الماضي عند قوله:
الله من هم طوي خافقي طي!
بين الضلوع المهدفة هوش وزحام
ماعاد به صاحب ولاعاد به خي
إلا صديق شايلينه للأيام
ماني وأنا فرحان عيٍّ ولد عي
متسولٍ ينسى صلاته إليا صام
ول لابس في كل حفلة ردى زي
باب الردي سكرت أمانه بصمام
مره بغيت أزعل وأذوق اللحم ني
لاشك ردتني تعاليم الإسلام
وأحرقت لي صندوق مابه ولاشي
إلا قصاصات بها بعض الأرقام
بدأ الشاعر في مطلع هذه الأبيات يكشف لنا عن سر النفس التائهة الحزينة.
إنه (الهم) سبب كل هذا الوهم الكبير، فها هو يفصح عنه بقوله:
الله من هم طوي خافقي طي!
بين الضلوع المهدفة هوش وزحام
(الطي) لفظة فصيحة بمعنى (لف الشيء على بعضه) تستخدم هذه اللفظة عادة لكل ماهو ليّن كالقماش، والبساط، ولا يمكن للقلب بوصفه عضو له قوام متماسك أن يُطوى، لكن قلب شاعرنا لما أضعفه الحزن صارلينا كقطعة القماش المطواعة.
(بين الضلوع المهدفة)
(الهدف) في أصل اللغة يطلق على كلّ شيء مرتفع من بناء وغيره؛ لذلك سمي الغرض هدفًا.
فهذه الضلوع المرتفعة، لصيانه الأحشاء، والقلب المطوي همًّا بينها اقتتال فـ(هاش) في العربية بمعنى (هاج ووثب للقتال).
أما قوله (وازحام) مأخوذة من (زحم) أي دفع في مكان ضيق مكتظ؛ فالهموم قد تكاثرت حتى ضاق بها المقام، فأصبحت كالسجناء الذين اكتظ بهم المكان، واختنقوا حتى احتدموا مع الأضلاع للهرب.
ماني وأنا فرحان عيٍّ ولد عي
متسول ينسى صلاته إليا صام
ولا لابس في كل حفلة ردى زي
ثوب الردى سكرت أمانه بصمام
ما زال الشاعر متدرجًا في التعريض بأسباب همه دون أن يُفصح تماما.
فالشاعر يتحدث عن أشخاص لا يستحقون منه أن يخسر حسناته لأجلهم.
فيظهر لنا الجانب الديني جليًّا واضحًا.
إنه يمتلك من الأخلاق الحميدة الكثير، فليس ممن يُقصِّرون في العبادات من أجل أخرى، كما هو عليه حال بعض البعض.
والشاعر إجمالا في هذين البيتين ينفي عن نفسه الولوج في كل ما يعيبه، وعبر عنه بالردي(والردى)يعبر به عن الموت أو كل مايخزي حد الموت، وكنّي بحفلة الردي سخرية وتعريضًا بمن يجد سعادته فيما يعصي به الله. ثم يحترس من التباس الفهم من أنه ربما يخوض في حفلات الردي بزي واحد فقال: إنه قد سكّر بابه بصمام أمان وهذه من الكنايات المستحدثة فشاعرنا من المخضرمين الذين يجمعون مابين الأصالة والتجديد.
مره بغيت أزعل وأذوق اللحم ني
لاشك ردتني تعاليم الإسلام
وأحرقت لي صندوق مابه ولاشي
إلا قصاصات بها بعض الأرقام
ما زال محترسًا ألا يُنعت بما يعيبه، فيقول: إنه لم يهم بالغيبة الا مرة واحدة، ولم يفعل عندما سنحت له الفرصة وهنا يظهر تأثره بألفاظ القرآن الكريم «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا»
ثم يختم بهذا اللغز الكنائي، تاركًا لنا باب التأويل مفتوحًا على مصراعيه دون أن يفصح لنا عن سبب كل هذا الحزن .
حيث يختم بلقطة سريعة، لمشهد مفاجئ جعل القصيدة تختفي وأضاء.
إنه مشهد الشاعر وهو يحرق صندوق به قصاصات لأرقام كانت تهمه (بدلالة وضعها في صندوق) موحيا لنا بأن هناك علاقة قد انتهت، هذا هو المعنى الذي اختزله لنا التعبير بالفعل (أحرق).
- د. زكية بنت محمد العتيبي
zakyah11@gmail.com