علي الخزيم
من الناس من يمنحه الله القبول حتى في صمته؛ وبعضهم يسلب الله منه القبول وإن كان كلامه انهاراً من العسل، تذكّرت هذه المقولة اللافتة وأنا أرقب أحد الجلساء الذي أكاد أصفه بالمحسود على التزامه الصمت غالب وقته، وإن تكلم أوجز ولم يُمَارِ أو يجادل أو ينتصر لرأيه، إلاّ ما كان في جناب الله وهو يملك الدليل، أتأمل منهجه وسلوكه فأتذكر أولئك الذين امتطوا صهوات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي فنصبوا أنفسهم أطباءً يقدّمون ابتكاراتهم من الخلطات الطبية العلاجية المزعومة، حتى إن ادعاءاتهم بشفاء الأمراض باتت كوميدية سحرية خارج نطاق المعقول وحتى المُتَخَيّل، والدليل القاطع لديهم لإقناع البسطاء أن (الدواء مجرّب)، وقد استفاد منه خلق كثير، ثم يُتْبِع مزاعمه برقمه على وسيلة الاتصال للترويج لما وصفه بالدواء.
الفتوى بمجال التداوي والعلاج ليست بأقل من بروز (فتية أحداث) يُسمّون أنفسهم بالمشايخ، ويظهرون بين فينة وأخرى على وسائل التواصل ذاتها وكأنهم علماء يأتون بما لم يأت به علماء الأمة والسلف من قبل، بل إن منهم من أخذ يُبَشِّر الأمة ببشارات يزعم أنها الفتح المبين الذي لم يأت به أحد قبله؛ كأن يقول: خذوا هذه البشارة التي قلّ أن يعلمها أحد، من قال كذا وكذا من التسبيح دخل الجنة، ثم يأتي آخر ويبزه في مجال البشرى، فيقول أبشّركم باثنتين، ويتبعه الثالث ببشارات ثلاث لا تعدو أنها في حقل التسبيح والتهليل وذكر الله، وهذه مسائل عرفها الناس منذ صدر الإسلام وليست بالبشارات الجديدة على الناس، وكان شاب (متمشيخاً) قد وقف أمام المأمومين بعد صلاة مكتوبة يُحَدّثهم ويقدّم ما يسميها البشارات، فاعترضه شيخ مُسِن وقور على قدر من العلم، وقال: (يا بني، هذه أمور نعرفها قبل أن تنبت أضراسك، فلا جديد عندك أصلحك الله).
وللتأكيد على تصنيف أنفسهم بفئة (المشايخ) فإنه لا بد أن يورد أحدهم في أحاديثه على وسائل التواصل أو بالمجالس العامة بعض القصص والمواقف يُدْخل في مضمونها هذه الجملة أو نحوها: (فقال لي يا شيخ حدثنا عن كذا وكذا)، أو (ما رأيك يا شيخ بكذا)؟ فالمهم هنا (الشيخ والتشيّخ) القسري، أي أنه رجل دين وعلم ويُؤخذ برأيه وكلامه، علماً بأنه لم يبلغ عشر ما يؤهله لذلك، غير أن منهم من يتلذذ بهذه الكلمة إن قالها عن نفسه أو قيلت له! وهذه قضية كبرى؛ إذ يظن أنه قد تأهل للفتوى وإطلاق الأحكام، ثم تأخذه جرعة من الخداع النفسي الذاتي ليبدأ بارتداء البشت والتضمّخ بدهن العود والجلوس (عمداً) بصدور المجالس باعتبار أنه (الشيخ فلان)، فيبدأ انطلاقة جديدة أوسع خطى وأكثر تركيزاً بمجال الفتيا وتقسيم الناس إلى مدارس وطوائف واتجاهات، فيمتدح هذا ويلوم ذاك ويذم أولئك، وكأنه وكيل مُفوض على عباد الله يصنفهم كيف يشاء!
ومما قيل أن مهارتين لا يجيدهما إلاّ حصيف عاقل: فن الصمت وفن الحديث، فالصمت بغير وقته خذلان، والحديث بغير وقته ومناسبته حماقة تنقص صاحبها.