د.محمد بن سعد الشويعر
استكمالاً لحديثنا السابق عن الرؤيا فما رواه جابر رضي الله عنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) رواه مسلم.
فإذا أخذ الإنسان بالأسباب قبل النوم: طهارة وهدوء بال ولا تفكير في أمر يقلقه وقرأ ورده ونام فإن الواجب ألا يذكرها لأحد بل يحمد الله على ما يسر ويستعيذه من كل شر. واستدل بعض أهل العلم على أهمية كتمان النعمة حتى توجد وتظهر كما حصل في رؤيا يوسف عليه السلام {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (سورة يوسف 4)، إذ أمره أبوه بعدم ذكرها لإخوته.
ورؤيا الأنبياء حق، وهي جزء من الوحي وبشارة بما يحصل بهم أو لأممهم؛ وصاحب الرؤيا إذا أراد تعبيرها لا بد أن يلتمس العالم ذا الفراسة ليعبرها له، لأن من كانت به هذه الصفة يعطيه الله علم التعبير كما عرف عن ابن سيرين -رحمه الله- فهو ممن رزقهم الله موهبة التعبير.
وقد روي أن المأمون العباسي كان يبطل الرؤيا ويراها أضغاث أحلام، ويقول: ليست بشيء ولو كانت على الحقيقة كنا نراها ولا يسقط منها شيء، فلما رأينا أن ما يصح منها الحرف والحرفان من الكثير علمنا أنها باطل وأن أثرها لا يصح.
وكان بعث بابنه العباس إلى بلاد الروم فأبطأ عليه خبره، فصلى ذات يوم الصبح وخفق وانتبه، ودعا بدابته وركب وقال: أحدثكم بأعجوبة.. رأيت الساعة كان شيخاً أبيض الرأس واللحية عليه فروة، وكساؤه في عنقه ومعه عصاً وفي يده كتاب، فدنا مني وقد ركبت فقلت: من أنت؟ فقال: رسول العباس بالسلامة وناولني كتابه فقال المعتصم: أرجو أن يحقق الله رؤيا أمير المؤمنين ويسره بسلامته، ثم نهض المأمون فوالله ما هو إلا أن خرج فسار قليلاً حتى أبصر شيخاً قد أقبل نحوه في تلك الحال فقال المأمون: هذا والله الذي رأيته في منامي، وهذه صفته فدنا منه الرجل فنحاه خدمة وصاحوا به فقال: دعوه فجاء الشيخ فقال له: من أنت؟ قال: رسول العباس وهذا كتابه، فبهت من كان حول المأمون وطال من ذلك تعجبهم فقال المعتصم: يا أمير المؤمنين أتبطل الرؤيا بعد هذه؟ قال: لا.
لكن الذي يحذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الادعاء بأن الشخص رأى شيئاً وهو لم يره، إما لكي يتباهى به أو ليجاري الآخرين في أحاديثهم عن الرؤيا؛ وقرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك التحذير والعقاب الشديد بالكاذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما في ذلك من الإثم العظيم والقول على الله وعلى رسوله -عليه الصلاة والسلام- بغير الحق.
لقد كان في (شقراء) حاضرة الوشم منذ تسعين عاماً قاضٍ معروف بورعه وزهده مع بصر بتعبير الرؤيا.. جاءته امرأة قائلة: إنني رأيت في المنام كأن فارساً على حصان أشهب قد دخل البلد، وله صوت أزعج أهل البلد، وفي يده اليمنى سيف وفي الأخرى رمح؛ وصار يطوف بالبلد من أكبر أسواقها فخرج الناس يميناً وشمالاً يستطلعون هذا الصوت رجالاً ونساءً وأطفالاً، فصار يضرب بالسيف فيهم يميناً ويطعن بالرمح شمالاً، وكان ممن ضرب بالسيف أنت يا شيخ قال: أما أنا فقد وجه إليّ رمحه ولكنه عندما أهوى به رأيت في رأسه قطعة قرعة، فانتبهت خائفة؛ فماذا يعني ذلك؟.. فاسترجع الشيخ وقال لها: خيراً -إن شاء الله- ولم يخبرها بشيء، ولكنه تحدث مع بعض طلابه بأن البلاد سيحصل فيها الطاعون أو شيء يفتك بهم، وسأكون من الموتى أحسن الله خاتمة الجميع.. أما هي فسوف ينجيها الله بالصدقة التي هي قطعة القرعة لأن الصدقة تذهب ميتة السوء.. وبعد عدة سنوات حصل المرض المشهور في نجد عام 1337هـ ومات فيه خلق كثير.
ومن يقرأ تعبيرات ابن سيرين يجد نماذج عديدة تعليلاتها وكذا ما روي عن إياس بن معاوية وغيرهما وفي بعضها محاسن وبعضها مساوئ، كما يجد القارئ فطنة المعبر وذكاءه والشواهد التي يستدل بها.