سام الغُباري
- ها أنا ذا مجدداً، في عاصمة إقليم سبأ العظيم «مأرب»، حيث مرقد الزاهد العابد المجاهد الشهيد «علي عبدالمغني» رحمه الله، مشاركاً ضمن وفد حكومي برئاسة معالي نائب رئيس الوزراء المناضل العملاق «عبدالعزيز جباري» حفل إيقاد الشعلة الرابعة والخمسين لثورة اليمن المجيد 26 سبتمبر، وصلنا عبر طائرة هليوكوبتر إلى مطار الإقليم قبل الغسق، وكانت في انتظارنا سيارات الجيش الوطني والسلطة المحلية، ذهبنا سوياً إلى مضافة القصر الجمهوري،
ومنها إلى ساحة الاحتفال حيث تتوهج شعلة السادس والعشرين من سبتمبر التي أخمد الحوثيون بريقها في العاصمة «صنعاء»، غير أنها استعصت عليهم في «مأرب»، فقد كان رئيس هيئة الأركان العامة «الجديد» بانتظارهم على أعتاب بوابة المجمع الحكومي، وحوله 300 جندي فقط ممن تبقوا من القوات المسلحة النظامية، فيما كانت عائلات قبائل «عبيدة والجدعان ومراد وجهم» تستقبل بانتظام شهداءها القادمين من جبهات القتال، وهم يقودون تشكيلات غير منظمة لمقاومة الحوثيين العاتين بسلاح الدولة التي سقطت في صنعاء دون سابق إنذار.
- لم تكن هناك ملامح دولة بعد، تتشكل في مواجهة المجرمين المستترين بالصدمة، فهياكل النظام المطبوع عن ولاية الفقيه الإيراني بانت معالمها تحت أنقاض نظامنا الجمهوري، كان قرار تعيين اللواء الركن محمد علي المقدشي رئيساً لهيئة أركان جيش اختطفه الانقلابيون، وتفرقت أبعاده، قاسياً، حتى أن أحد أقاربه همس في إذني متمنياً كتابة مادة قصيرة تدعوه للاعتذار عن ذلك القرار باعتباره فشلاً مُبكراً، يخشى على تاريخه منه!
- في تلك الأيام كتب أحد الأصدقاء على صفحته بفيس بوك ساخراً من قرارات الرئيس عبدربه منصور هادي الصادرة من «الرياض» لتعيين «رئيس أركان» في «مأرب» لجيش في «صنعاء»!، كانت معادلة مستحيلة حقاً، فالحوثيون الذين لاحقوا الرئيس إلى «عدن» في أقصى مدن الجنوب المستلقية بحنان على شاطئ بحر العرب، يتحركون بعشرات الآلاف من المرتزقة، وتحت سطوتهم خِبرة 33 عاماً لألوية «الحرس الجمهوري» المُحترفة بعتادها المخيف، ومخازنها الحربية المخبأة في أنفاق صنعاء وجبال عدن، فيقبضون على أعناق المدن، ويبسطون نفوذهم في أرياف اليمن وشعابها، حتى كادت روح الجمهورية تُزهق إلى الأبد..!
- بعد 575 يوماً من ذلك القرار، و54 عاماً من صحوة الفجر الأولى للشعب اليمني، جاءت ذكرى السادس والعشرين من سبتمبر وسط نشيج مؤلم يتداعى في صفحات التواصل الاجتماعي، حتى ظننت الزعيم «السلال» يتصدر منصة الاستعراض، وحراس الثورة والجمهورية يصطفون بثبات وتحدٍ لمواجهة البرامكة الإماميين، وفي يده مايكرفون النداء المثقوب، يُعلّم طلائع الجمهورية معنى الحرية التي غابت عن الوعي الوطني، فلا يتركهم حتى يُرسّخ عقيدتهم ويطوي بصلابته أبشع صفحات النازية السلالية.
- لقد بحث اليمنيون بعد عقود التثاؤب عن هويتهم التي صنعها آباؤهم، وقرروا ترميم حصونهم المنيعة الشاهقة، فاستنشقوا طيب الحروف التي كتبها الثوار الماجدون عن وجه سبتمبر السعيد، قرأوا لأول مرة بكل عشق حروف النضال الأولى بحق كهنوت عائلة الخرافة والفشل السحيق، ونجحوا جميعاً في مادة «التاريخ»، تناقلوا الوعي، وتتبعوا سيرة شباب سبتمبر 1962م وراء أبواب صنعاء الخلفية حيث دُفنت نصال النضال، وعلى كل باب أفاق الثوار من مراقدهم .. لقد بعثوا من جديد!.
- في عشية الذكرى، حمل «علي عبدالمغني» جذوة الثورة من حيث أناخ راحلته في صحراء الجمهورية فأشعلها، وألهب زئير الأسود حتى تطهرت «صرواح» من تعويذة المارقين، ومن ذُرى «نهم» اقترب الأبطال، فأثخنوا فيها الفؤوس، ودكوا خرافة عيال «الرسي»، فكان يوم جحيم، وقد تمنى الحوثي لو يُفتدى بزنبيله من عذاب السعير.
- الأبطال الذين أشاهدهم أمامي، يتكاثرون، تتناسلهم الجمهورية التي ما قدّروها حق قدرها، هم من تغيب وجه الشمس أمام كثافة حشودهم المُلبية فداءً لليمن، كانوا مستضعفين، مشرقين، ومؤمنين، رئيسهم مرتبك، غارق في أحزان رفاقه الذين قضوا برصاص الإقامة الجبرية، وفي عين أخيه التي ودّعها قبل أن تُكبّله أيادي الآثمين، فلا يعود .. واليوم يأتي العيد «مقدشياً»، وقد صنع في عين التاريخ معجزة من لهب، هزم أسطورة ثلاثة عقود من جيش الفول المعبأ في كروش الانتفاخ، وأذاق أحفاد «الرسي» وشياطينهم عويل ثاكلات النواح في كل دار وبيت، به ارتفعت راية المجد من عُمق مأرب، وله عاد صوت «أيوب» شجياً : قدري دوماً يدٌ تبني غدا * ويدٌ تحرس مجد الوطنِ
.. وإلى لقاء يتجدد.