إبراهيم عبدالله العمار
تصير امتداداً لأطرافك. إن المطرقة في نظر المخ جزء من يده. عندما يرفع الجندي المنظار المقرب إلى عينيه فإن المخ يرى من عينين جديدتين ويتكيف بسرعة مع مجال الرؤية الجديد.
لكن الرابط الوثيق بيننا وبين أدواتنا له تأثير متبادل وليس من جانب واحد فقط: كما أن التقنية تصير امتداداً لنا فإننا نحن أيضاً نصير امتداداً لها.
إذا أمسك النجار المطرقة وصارت مثل يدٍ جديدة فهو لا يستطيع أن يفعل أي شيء بهذه اليد الجديدة إلا ما تمليه هي عليه.
لن يستطيع أن يطير بها مثلاً، أو أن يقص بها، ليس في وسعه إلا أن يستخدم يده الجديدة في طرق وقطف المسامير.
الجندي لا يستطيع أن يرى إلا ما يسمح له المنظار أن يرى، فصحيح أنه يرى الأشياء البعيدة لكنه يعمى عن القريبة.
كل آلة تفرض قيوداً حتى لو أتاحت فرصاً، فكلما استخدمناها أكثر سَبَكنا أنفسنا في صورتها ووظيفتها أكثر.
يشرح المفكر مارشل مكلوهان كيف أن التقنية تقوينا وتضعفنا في نفس الوقت، فيقول في كتابه «فهم الإعلام» أن الأدوات في النهاية تخدر العضو الذي تقويه، فإذا قوّينا أحد أعضائنا أو حواسنا فإننا في نفس الوقت نُبعد أنفسنا عن هذا العضو ووظائفه الطبيعية، فلما اختُرِعت آلات الخياطة صار الحائكون ينتجون من النسيج أكثر بكثير مما كانوا لما اعتمدوا على أيديهم، لكنهم ضحوا ببعض براعتهم اليدوية في الحياكة وفقدوا إحساسهم بالنسيج – صارت أيديهم «مخدرة».
نفس الشيء مع المزارعين، والذين فقدوا إحساسهم بالتربة لما استخدموا الجرافات والمحارث الآلية، رغم أنه اليوم المُزارع يركب التراكتور الضخم ولا يلمس التربة بنفسه ومع ذلك يحرث حقلاً لم يستطِع أجداده حاملي المعاول اليدوية أن يحرثوه في شهر كامل.
عندما نقود السيارة نقطع مسافات طويلة لكن نفقد اتصالنا مع الأرض.
هذا هو ما يجدر أن ينتبه له كل من يعشق التقنية ويظن أنها دائماً خير مُعين للبشر.
من استبشر بقدوم الحاسب وظن أنه سيوسع آفاق المخ ويقويه.. مخطئ. إن ثمن القوة التي تمنح التقنية هو ما يسمى الاغتراب.. نوع من البرود والجفاء.
الثمن يمكن أن يكون عالياً خاصة مع التقنيات الفكرية، فالأدوات العقلية تُقوي وفي نفس الوقت تخدر قدراتنا الطبيعية وأكثرها بشرية، أي تلك التي تخص التفكير والإدراك والذاكرة والمشاعر.
الساعة الميكانيكية رغم كل الفوائد التي أعطتناها... أزالتنا من الجريان الطبيعي للوقت، فنحن نطيع الساعة إذا أردنا العمل، الأكل، النوم، الاستيقاظ، وتوقفنا عن الاستماع لحواسنا.. صرنا أكثر علمية لكن أيضاً أكثر ميكانيكية.
حتى أداة تبدو عديمة الضرر وبسيطة كالخريطة كان لها تأثير مخدر.
قدرات الملاحة والتنقل لأجدادنا قوّتها الخريطة، لأول مرة استطاع الناس أن عبور أراضي وبحار لم يروها من قبل، لكن... قدراتهم في استيعاب صفحة الأرض ضعفت، وكذلك ضعف قدرتهم على صنع خرائط ذهنية.
ضعفت المنطقة في منطقة الحُصين في المخ Hippocampus المخصصة للتمثيل المكاني.
انتبه لهذه الأشياء.
كلما زاد اعتمادك على التقنية ضعف مخك وقدراتك الرائعة التي ملأ الله بها عقلك، وصاغتك التقنية كما ترغب هي.