أحمد المغلوث
كان بيت خالي الجديد يقع على امتداد بيتنا فكلاهما يقع على الشارع العام بمدينة المبرز، وكان الوصول لبيت خالي لا يستغرق اكثر من دقائق معدودة. جاءت لبيتنا إحدى السيدات والتي كانت تعمل لدى بيت خالي وفوجئت باضطراب والدتي، وإذا بها تطلب مني مرافقتها، فجدتي مريضة جداً، ومن المهم ان تذهب للاطمئنان عليها..! وقفت الى جوار فراشها بجوار والدتي وزوجة خالي وجارة فاضلة، كان الوقت صباحا وجدتي كانت تبدو اشبه بعروسة عجوز شعرها الاشيب الطويل تتدلى خصلاته من بين حجابها وكان رأسها يكاد يختفي في طياته، كان الحزن والبكاء الصامت ونشيج جميع من حولها يكاد يختلط بأنفاسها الضعيفة، وساورني لحظتها إحساس غريب بأن جدتي سوف ترحل.
إنها النهاية كما كنت اقرأ في بعض الحكايات والقصص. وكأنني وأنا أراقبها والعبرة تخنقني سوف أتمكن من فعل شيء ما يمنع رحيلها، فأنا ومنذ كنت طفلا صغيرا الطفل المدلل من بين أبناء وبنات خالي وحتى أبناء وبنات ابنتيها..!
ومع مضي بعض الوقت جاء خالي من عمله على عجل.. وهو يعيش مشاعر الخوف والوجل.. كان الجميع يرددون بعض آيات من القرآن الكريم وأدعية مختلفة لكنهم كانوا جميعا في وضع لا يحسدون عليه، فدموعهم الصامتة (أربع أربع) كما يقولون.
جلس خالي بجوار فراشها بعدما أشار لي بالابتعاد، ثم أمسك بيدها المعروقة وهو يداري دموعه.. وراح يقرأ بعض سور القرآن القصيرة.. وكانت اللحظة الأخيرة عندما التفتت جدتي إلى ابنها خالي وتطلعت إليه برهة ثم أدارت نظرها إلى الجميع.. وكأنني شاهدت ابتسامة فيها شيء من النور مثل اسمها.. وجاءت النهاية رقيقة سهلة بها شيء من الرضا.. كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً عندما علم جميع أفراد الأسرة برحيل جدتي.. وتقرر ان يكون الصلاة عليها في جامع العائلة والذي كان بجوار بيت خالي.
كان الجميع يحمدون الله أنها عاشت تسعة عقود لم تعان خلالها من أمراض أو متاعب صحية، بل انها إلى آخر لحظة كانت تبتسم ابتسامة الايمان والرضا.
وبعد الصلاة عليها في الجامع اتجهنا بها إلى المقبرة الجنوبية، والمضحك المبكي لحظتها ان بعض العمال والذين تصادف وجودهم بجوار الجامع راحوا يرددون رحم الله ناصر رحم الله ناصر وهم يشاهدون جنازة جدتي نورة رحمها الله واسكنها فسيح جنانه.
كان يومها صادف يوم تشييع جنازة الرئيس عبدالناصر، وخرجت جنازات تشييع في بعض الدول العربية محاكاة لجنازة عبد الناصر.. ومازلت أذكر أن أحد أبناء عمومتي راح يؤكد لأحد العمال بأن الجثمان هو لام عبد اللطيف ولم يكن جثمان تمثيل، وموكب الجنازة المتجه للمقبرة هو موكب حقيقي.
تغريدة:
الشيء الوحيد الذي يستهلك رواتب الموظفين والموظفات في هذا العصر هو فواتير الهواتف الذكية، والتي بذكاء استطاعت أن تضع يدها في جيوبنا!.