د. جاسر الحربش
الأجانب يرسمون الخرائط، يوزعون المساحات ويقطعون طرق التواصل التاريخية والعائلية، يدمرون التكامل الاقتصادي وتبادل المنافع، والأهم أنهم يفتتون عناصر القوة الموروثة إلى عنصريات متقاتلة، فيصبح الجميع مكشوفين تستبيحهم كل أمم الأرض. طاعون الأمة الفتاك كان دائماً يعشش في عداوات الأنظمة وكيدها لبعضها. لهذا السبب يستدعي كل نظام حليفاً أجنبياً ويسلمه الأقلام والأوراق والمساطر لرسم خرائط جديدة، فيدخل أتباعه في عداوات مسمومة مع إخوانهم على الضفاف الأخرى.
ثلاثون مليون شخص كان يجمعهم وطن واحد اسمه العراق، له هيبته التاريخية والمعنوية والعلمية، فتحول الكيان الجامع إلى ثلاث كيانات هزيلة يتحكم فيها الأجانب من خارج الجغرافيا والتاريخ والجنسية، كيان للمذهب الشيعي وكيان للمذهب السني وكيان للكرد. أمام قرابة ثلاثين مليون سوري تحولت سوريا إلى ثلاث كيانات، علوية وكردية وعربية. السيادة في العراق على كل الكيانات الهجينة لأمريكا وفي سوريا لروسيا، وثمة دولة إقليمية تمارس دور الدودة الطفيلية الملتصقة هنا وهناك.
قبل ذلك قسم السودان إلى جنوب وشمال ودارفور وكردفان. ليبيا سوف تقسم إلى بنغازي وطرابلس والزنتان وسبها. المخطط يزحف بثبات لا تخطِئُه العقول نحو مصر والدول الخليجية واليمن، ما كان يعبر عنه داخل الكيانات القديمة بالاحتجاجات والإضرابات والتضحيات المحدودة سوف يتحول إلى حروب مدمرة، أولا ًبين الكيانات الهجينة مع بعضها، ثم داخل كل كيان بين مكوناته الخاصة. الحروب الأهلية سوف تستمر وتتسع لا محالة، وذلك هو الهدف الكبير للكبار على الصغار حتى يركع الجميع لاستعمار جديد.
كامل الجغرافيا المتشابهة في التضاريس واللغة وأصول الأديان مخطط لها أن تدخل في جحيم أبدي وتبعية دائمة. المسؤولون هم لصوص الأنظمة والسياسة والمذاهب. عجيب أن يحصل التفكيك لكيانات تاريخية بهذه السهولة دون ثورات شعبية يقودها وطنيون من المثقفين والتربويين والطلبة مع بعض المتدينين المتسامين فوق مصالح مذاهبهم ومرجعياتهم. عجيب أن يستسلم تاريخ يختزن غزوات المغول والتتار والصليبيين والعثمانيين، لغزاة جدد أجانب ويكتفي بالنواح على قتلاه ومنازله المهدمة ودور عباداته المتحولة إلى أطلال.
هذه الأوضاع تفرز أسئلة كبار، والأجوبة عليها سهلة ولكنها ممنوعة بسبب قصور الهمم والخوف المعشش في القلوب من سطوة أفراد لا قوة لهم ولا سند إلا من خارج الجغرافيا والتاريخ واللغة والدين.