عبده الأسمري
في سيرته التحمت المعرفة مع العلم وتلاحمت الجماهيرية مع العمل فمثل «ظاهرة دعوية» و «تظاهرة إنسانية» في هيئة شخص طالما احتاط بالتواضع وتحوط بالبساطة وفي مسيرته نمت «منابت الحب» التي غرسها في قلوب تلامذته ومتابعيه واختفت «غيابت العتب» في تجربة ارتهنت لنتاج معرفي وإنتاج احترافي من الدعوة والعلم الشرعي والشعر والأدب وحتى «سيكولوجيا الدعوة» فبات رقمًا صعبًا ونجمًا بارزًا في سماء الحكمة والموعظة الحسنة.
إنه الشيخ الدكتور عائض القرني القادم من بلقرن جنوبًا التي عاش بين رياحينها طفلاً يرقب صفوف الضيوف عصرًا في منزل والده مقدمًا فرضيات الاستقبال ثم يتخذ ركنًا قصيًا لمعاقرة الكتب مساء وحفظ ما يسمعه من أساتذته. كان القرني يراقب النجوم في ليل قريته الهادئة في شمال عسير يردد الأحاديث التي كان يسمعها في الراديو ويمكث طويلاً في جامع قريته باحثًا عن معرفة «قولية» جائلة من شيخ وقور أو حكمة متنقلة مسجوعة كمثال أو مجموعة كدلالة حياتية.
كبر القرني وكبرت معه آماله كان شغوفًا بالدراسة عطوفًا بالقيمة التربوية مسجوعًا بالتدين مفجوعًا بما كان يشاهده من أوضاع المسلمين حينها في بلدان خارجية.
بوجه تحفه الابتسامة وتحفه الاستقامة وعينين واسعتين تشع بالحسنى والسكنى تشكل تعبيرًا أول لشخصيته وكاريزما هادئة ساكنة تقطع سكينتها «الطرافة» كثيرًا فتتوزع سكنات القبول والألفة على محياه وصوت متوسط النبرة سريع العبرة يطل القرني ممتلكًا «خلطة سرية» في حب الآخرين و»لغزًا مكشوفًا» لقبول المتلقين و»معادلة محلولة» لتواصل المحاورين و»اتفاقية بيضاء» لمناقشة المختلفين «فكان من أبرز الدعاة بل وصاحب» التجربة الفريدة من الانتماء للوسطية بعد مرحلة انتقلت من «التشدد» إلى التمدد حبًا ومنهاجًا متزنًا ومقياسًا مرنًا جعلته نموذجًا وطنيًا جميلاً يعكس الاعتزاز بالعلماء والعز بالنبلاء.
حصل القرني على البكالوريوس من كلية أصول الدين من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ثم نال الماجستير ثم الدكتوراه من ذات الجامعة وعمل القرني أستاذًا للحديث في جامعة الإمام لسنوات.
لم يعبأ القرني للمختلفين معه بقدر أنه تعبأ نضوجًا فكريًا وامتلأ موجًا من الاتزان سكن نفسه فأبحر فيه بمجداف الفكر الوسطى ووصل إلى ضفاف المعرفة التي سبر أغوارها في الحديث والفقة والتفسير وسارت قافلته الممتلئة بالعلم المملوءة بالثقافة لتنال عاصفة التصفيق من المتفقين وعاطفة التوفيق من المختلفين.
يقابل القرني موجات الاختلاف بموجبات الائتلاف لذا كان وجبة عقلية موضوعية لبطولة الحوار الهادف وبات داعية بسمات مثقف وواعظ بصفات أديب. استطاع توظيف الكلمة بلغته الخاصة فاقترب من القلوب وتقارب مع العقول فكان نموذجًا دعويًا غير «النظرة المنغلقة» وحول الرؤية المعلقة بين التشدد والانفتاح إلى «توليفة فريدة» من الوسطية والتوسط استوطنت الأفئدة فكانت محاضراته وكتبه وأطروحاته «تقاربًا بين الثقافات وامتزاجًا بين الصراعات وحلولاً دينية تسمو بالأنفس وتعلو بالأرواح لتعتنق الدين بمثالية وتعانق الحياة بامتثال.
حقبة وصفها «القرني» بالمستفيضة في التجربة الفائضة بالمنفعة وقف بعدها أمام المضايقات مبتسمًا وتجاهل الصراعات باسمًا سار في طريق فرشه بالصدود عن أطياف المتشددين. اعتزل الدعوة والإعلام ذات زمن هروبًا من مهاترات «الجدل» وبعدًا عن ترهات «الجدال «ثم عاد لمنابر الدعوة ومسابر العلم مستبشرًا بمرحلة «تجود» بالتوافق وتجيد الوفاق في خدمة الإسلام والحياة.
يرى القرني أن الانفتاح والتشدد والاملاءات ثلاث جبهات يجب أن تفهم وأن يسير الداعية وفق ما تمليه عليه أمانة الدين ورسالة الدعوة، كانت محاولة اغتياله من أهم محطات حياته عندما تعرض لها في الفلبين على أيدي مسلحين ونجا منها وعكست الحادثة الشعبية الجارفة، والحب الحقيقي للقرني ورجحت كفة ميزان اسمه وعمله كمحك واقعي.
ألف القرني أكثر من 80 مؤلفًا شرعيًا وأدبيًا وثقافيًا ومعرفيًا ولامس كتابه الشهير «لا تحزن» مقياسًا عالميًا في مستوى الثناء والعطاء مبيعًا ومحتوى. وشارك في نحو 40 برنامجًا فضائيًا ومئات المحاضرات والأمسيات حيث مثلت إرثًا ظاهرًا بينما يجمع في ثنايا روحه تراثًا باطنًا من الدافعية والوطنية والتفاني والعلو الإنساني والسمو الأخلاقي والاجتماعي.