د.عبد الرحمن الحبيب
بعد هجمات 11 سبتمبر، أعلن النظام العالمي الجديد بقيادة أمريكا الحرب على الإرهاب دون هوادة؛ لكن بعد مضي 15 عاماً تفاقم الإرهاب وصار عالمياً، وإذا كان الطرح الفكري العام مرتبكاً في تفسير تلك المفارقة، فهل لدى الفلسفة تفسير وعلاج لهذه الظاهرة؟
أهم ثلاثة فلاسفة عاصروا هجمات 11 سبتمبر، هم: الألماني هابرماس، والفرنسيان دريدا وبودريار. كلهم يتفقون على أن إيديولوجية الإرهاب العالمي تتمثل في رفض العولمة التي غيرت طبيعة المشاركة الاقتصادية والسياسية للمجتمعات. فتحت العولمة طرقاً جديدة للمشاركة يبدو أنها "وهمية" حيث تترسخ هيمنة الرابحين (الأغنياء، الأقوياء) على البقية الذين ظهر منهم فئات تقاوم العولمة بعنف.. لكن هؤلاء الفلاسفة يختلفون في المقاربة الفلسفية لذلك.
بداية يرى هابرماس أن عدم التسامح الديني الذي تجسده الأصولية هو ظاهرة حديثة وليست عودة للدين الأصيل سواء كانت أصولية إسلامية أو مسيحية أو هندوسية. فإذا كانت الحداثة طريقة في التفكير أكثر منها مضموناً فكرياً، فكذلك الأصولية ليس لها علاقة بعقيدة دينية بل بطريقة التفكير التي تشكلت عبر ردود فعل عنيفة ضد طريقة فهم الحداثة للدين.. إنها "استجابة عنيفة تجاه الحداثة.. خوفاً من الاقتلاع العنيف لطرق الحياة التقليدية".
أتت العولمة وزادت الطين بلة، إِذْ فاقمت اللا مساواة، حسب هابرماس، الذي يقول: "العولمة قسَّمت مجتمعات العالم إلى رابح ومستفيد وخاسر.. بهذا المعنى، الغرب بكامله عدّ بمثابة كبش فداء للعالم العربي بمعاناته الحادة من الخسارة.. تخلق مثل هذه التجربة مجالاً نفسياً مناسباً لاستقطاب عالمي.." لحل المعضلة، يدعو هابرماس لنقد ذاتي جدي داخل الثقافة الغربية؛ لأنه إذا كانت الرسالة المعيارية للغرب الديمقراطي الليبرالي هي النزعة الاستهلاكية فقط، فستجد الأصولية بيئة مناسبة لنموها.
حسب هابرماس، العنف في المجتمعات الغربية سببه عدم المساواة الاجتماعية والتمييز والتهميش، أما العنف في الثقافات الأخرى فيرجع إلى أولئك الذين أصبحوا معزولين ومنقطعين في البداية عن بعضهم الآخر عبر التخاطب المشوه منهجياً. في كلتا الحالتين لا يفتح الإطار القانوني للعلاقات العالمية قنوات جديدة للتواصل المنهجي فيستمر العنف. علاج ذلك بتغيير طريقة التفكير والتحرر من الخوف والاضطهاد عبر تحسين ظروف المعيشة والثقافة السياسية، وبناء الثقة في الممارسات اليومية التخاطبية ليصبح بالإمكان عمل تنوير في الإعلام والمدارس والمنازل، حيث يتعارف الأفراد على بعضهم الآخر ويتفاعلون.
أما دريدا فلا يرى إمكانية للعلاج الكامل لأن الإرهاب عرض لازم من أعراض الحداثة أو ما يسميه "اضطراب المناعة الذاتية"؛ نتيجة الفصل الحاد والسريع بين الأبعاد الدينية والأبعاد العلمانية؛ ويتعين كشف أمراضها المدمرة وتشخيصها.. والحل الممكن هو التقدم ببطء وصبر في البحث عن علاج. اضطراب المناعة الذاتية تجلى بوضوح في هجمات سبتمبر رغم أن علاماته ظهرت قبل ذلك حسب أطروحة دريدا. خلال الحرب الباردة، أدَّى انتشار الترسانة النووية، إلى قوى متكافئة، قامت خلالها الديمقراطيات الغربية بتسليح وتدريب أعدائها المستقبليين بطريقة شبه انتحارية (التي خلقت تنظيم القاعدة). الآن، يواجه النظام العالمي صراعاً مع قوى غير محددة (جماعات ومليشيات) وغير قابلة للمحاسبة فهي خارج الإطار القانوني للنظام العالمي وليست دولاً ذات سيادة.. فمن يحاسب من؟!
دريدا مرتعب من تأثير العولمة على حركة هذا الصراع.. ومما يقوله: بين قائدي الحرب المزعومين، بن لادن وبوش، حرب الصور والخطابات التي تجري بخطى متسارعة على الهواء، تخفي وتحرف بسرعة الحقيقة التي تكشفها.. العولمة تمارس خداعاً خطابياً لتخفي الظلم.. واختيار تاريخ 11 سبتمبر كعنوان للهجمات هدفه إسباغ ضخامة تاريخية للحدث مما يصب في مصلحة الإعلام الغربي ومصلحة الإرهابيين.
بين هاتين المصلحتين يقف العالم الإسلامي في موقع فريد، حسب دريدا: فمن جهة يفتقد لممارسة التجربة الديمقراطية، ومن جهة تتوافر بمناطقه موارد طبيعية غنية لكن غالباً لا ينتفع منها بل انتفع منها الغرب.. هذا الموقف يجعل الكتلة الإسلامية شديدة التأثر والحساسية للتحديث القاسي الذي جاءت به أسواق العولمة وسيطرت عليه الشركات العالمية.
أما بودريار فيطلق مقاربة فلسفية صادمة.. فالنظام العالمي المهيمن يفتقد للعدو لذا يعمل على خلقه بشكل مباشر أو غير مباشر.. كيف؟ العولمة هي نفي للاختلاف وللغريب وللبعيد.. نفي للآخر.. ومن هنا يتجلى عنفها، عنف يطارد كل أشكال الاختلاف والتفرد والخصوصية. إنه عنف فيروسي يعمل تدريجياً على تدمير مناعتنا وقدرتنا العقلانية على المقاومة. هنا تظهر مقاومات لا عقلانية لعنف العولمة، متخذة أشكالاً عنيفة شاذة ولا إِنسانية.. هذه المقاومات تتشكل في جماعات (دينية، إثنية، لغوية) بإمكانها إفشال العولمة.. وكلما زادت هيمنة النظام العالمي الواحد زاد الإرهاب الموجه نحوه.. وبالتالي تخلق العولمة عدوها من ذاتها، تخلق نقيضها من أفعالها.
ويخلص بودريار إلى أن الإرهاب ليس هو الإسلام، والعولمة ليست هي أمريكا، كما يصورها الإعلام المسيَّس بكيفية إيديولوجية، بل هما (العولمة والإرهاب) نسق من الهيمنة الكونية: هيمنة العولمة يقابلها عنف الخصوصيات. أما الحل الفلسفي فهو بالحد من ظاهرة العولمة والسماح بوجود المخالف والمغاير حضارياً ودينياً ولغوياً.. "لإنهاء الإرهاب يجب إنهاء العولمة"، يقول بودريار!
* المرجع الأساسي للمقال: كتاب "Time of terror" للفيلسوفة جيوفانا بورادوي