هنالك بعض الأسئلة التي يسألها بعضنا البعض للتعرف على شخصية الآخر خصوصاً في بدء تعارف أو بدء تكوين علاقة شخصية، هل أنت تحترم الآخرين؟ هل أنت متكبر؟ هل أنت أمين؟ هل أنت كريم؟ هل أنت تحب الخير للناس؟ والرد يأتي على طراز واحد: أنا أحترم من يحترمني وأعادي من لا يحترمني، أنا لا أغلط لكني لا أرضى عن الغلط، أنا لست متكبراً والناس لا يدركون ذلك، وهكذا تستمر الإجابات على نفس النسق. إن هذه الأسئلة في الحقيقة هي أسئلة غبية بامتياز فلا أحد من البشر ستتوقع منه أن يقول بخلاف تلك الإجابات ولا أحد يقول عن نفسه أنه شرير، أو أنه خائن، أو أنه أناني ومتكبر ومتعجرف. فإن كان كل البشر لا يعترفون بأنهم أشرار، فمن الشرير إذن؟. ما يجعل الإجابات موحدة هو لأن طريقة سؤالنا غبية، ولذا ابتكر علماء النفس قوالب من الاختبارات الشخصية التي تخضع لمحكات علمية يمكن من خلالها الكشف عن نمط الشخصية، ولكي لا يبدي المفحوص خلاف سلوكه، يراعي الأخصائيون النفسيون الجيدون بعد تطبيق الاختبارات النفسية خصائص نفسية معينة قد تؤثر على سير ونتائج الاختبار، ومن أهمها ما يدفع المرء لأن يغطي بعض السلوكيات (ليس من دافع الكذب) وإنما بسبب ما يعبر عنه بـ: ميكانزمات الدفاع عن النفس Defence mechanisms وأحد هذه الميكانزمات تسمى بردة الفعل العكسي Reaction formation، وتشير خاصية ردة الفعل العكسي ببساطة إلى وجود مجموعة من السلوكيات التي تخدع فيها النفس لنفسها لتثبت لها (قبل أن تثبت للناس) أنها بخلاف ما هي عليه من صفات سلبية، فلو كانت النفس تشعر بالمظلومية فأنها تتمظهر أحياناً بأنها ظالمة حتى تخفي شعور المظلومية، وبعكسه لو كانت النفس بطبيعتها عدوانية وظالمة فإنها أحياناً تتمظهر بسلوكيات الصلاح والسلم. كذلك لو كانت النفس تشعر بالنقص والدونية فإنها أحياناً تتمظهر بالكبر والتعالي وبعكسه لو كانت مجبلة على الكبرياء والتعالي فإنها تتمظهر بمظاهر التواضع واللين. والنفس حينما تقوم بسلوكيات معاكسة لما عليه حالها، فإن هدفها ليس خداع الناس وإنما لتثبت لنفسها أنها بعكس ما هي عليه، لكن يظل الخداع حالات استثنائية ويظل سلوكه العام هو القاعدة.
على العموم، ليس هذا هو موضوعنا، موضوعنا عن الكرم عند العرب، وما هو دافع صفة الكرم، فهل الكرم العربي هو تعبير عن سلوك نابع من نفس طيبة تحب الخير للناس؟، أم أن الكرم عند العرب هو نابع من جبلة ورثها الآباء على الأجداد منذ آلاف السنين وأصبحت قيمة Value لا يمكن تركها أو التنازل عنها؟، أم إن الكرم العربي نابع من معيار وضعه العرب لتقييم من هو الشخص المثالي الذي يستحق لقب الرجل ومن هو الشخص الدنيء الذي لا يستحق لقب الرجل؟، على العموم كل هذه الأسباب وجيهة وممكنة ولا أحد يجال على وجاهتها.
لكن لعلي أتساءل في حال أن يصل الكرم لحد الإسراف والتباهي والفخر، فما هو دافعه؟ وهل يدخل هذا النوع من الكرم إلى دافع الاستعلاء على الآخر بأن رقبتي أطول من رقبتك وأن شأني أكبر من شأنك؟ وهل لسان حاله الداخلي عندما يقول لسان حاله الخارجي «تفضلوا على الغداء» هو يرمز بأني {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}.
ولعلي أتساءل بشكل أكثر صراحة، وأعيدكم لماضي قريب عندما كان الغزو على بعضنا هو مصدر للدخل، وكانت كل قبيلة بعدما تغنم من قبيلة مجاورة أن تضيفهم على موائد تم سرقتها منهم، والسؤال: هل يدخل سلوك الكرم هذا في ميكانزمات الدفاع عن النفس؟ كي يثبت لنفسه أنه كريم وليس بسارق.
وهل يدخل في ميكانزمات الدفاع عن النفس سلوكيات بعض «الكرماء» الذين عرف عنهم أصلاً بالعبث بأموال الدولة وبالفساد المالي!! ليثبت لنفسه وللآخرين أنه شخص كريم وليس بسارق، لكنه في ذات الوقت قد ينجح في التخفي من مقولة «لا تزني ولا تتصدقي».