الثقافية - سعيد الدحيه الزهراني:
فاتحة الشجن:
كأنما كَبِدُ الذكريات تستغيث.. وأنت برحيق دمك.. تروي ظمأً تأجل إلى هذا الحين الذي أذِن فيه القدر.. بأن يمرّ الـ ما لا ندري كنهه.. لكننا نرتشف نكهته.
قل: ممر يقلّك كلّك دون إذنك إلى فوّهة من حكايا.. زِد: صور تسللت على حين انتباه إلى غار الروح.. ثم جاءت كما البرق؛ سعياً وسطوعاً.. لتستقر ـ بكامل دفئها الأول ـ بين يديْ لحظة الآن.. فإذا بها فاكهة الشجن!
هل يشبه الروح.. تلك التي من أمر الله !! إنه ظلها الذي نعرفه ولم يرها أحد. قال الراسخون في الصدق: وجه الروح الشجن.. سأل المريدون: أين؟ أجابوا:
في جلباب الحنين..
في نغم حزين..
في صدق الذكرى والتذكر..
في لحظة نبض حي..
في استفاقة حلم من يقظة..
في وداع لا يموت..
في شهقة حب على شفاه التوت..
في جوع لصلاة..
في لحظة مشتهاه..
في ظل الأرواح.. في ظل الأرواح..
محاولة تقديم:
(عصفورة الشجن)
أنا يا عصفورة الشجن
مثل عينيك بلا وطن
بي كما بالطفل تسرقه
أول الليل يد الوسن
واغتراب بي وبي فرح
كارتحال البحر بالسفن
لعل هذه الكلمات التي تغنت بها فيروز.. مع لفيف من الرسالات الأخرى لمبدعين آخرين؛ شعراً ونثراً وكتابات وأغنيات.. بل وعناوين لدواوين ومجاميع قصصية.. تماهت مع الشجن تصريحاً وترميزاً.. وكأنها تتهيب المبيت في بيته الذي يسكننا ولا ندريه..
يا لوجه الشجن.. كثيرٌ كثيرٌ كما الأمنيات.. عزيزٌ عزيزٌ كما الأمنيات.. ونحن والشجن كأننا السفر.. نصل إلى بعضنا لنسافر إلى بعضنا ولا نصل !
.. هنا «الجزيرة الثقافية» تصافحكم بسؤال «الشجن» عبر رؤى من مختلف أوطاننا في القطر العربي الكبير.. فإلى فاكهة الشجن المرة المستطابة.
شجن الحياة / شجن اللغة
واسيني الأعرج: باريس
الحزن ليس حالة سلبية دائما، أو لحظة هرب من شيء مستحيل، لكنه رسم للاستحالة، وانتفاضة وجدان قلق وجريح ضد خوف مبطن لا نستطيع حياله الشيء الكثير سوى العودة الحثيثة إلى صفاء الأعماق. قد نصل إلى هذه الأعماق فنتصالح معها، وقد لا نصل، ويظل شيء فينا يدور مثل الروح الشريدة بلا مستقر لها، بالخصوص إذا المصاب كبيرا، يمنعنا من أية سكينة.
الشجن ليس حالة بسيطة في الإِنسان وربما في كل الكائنات الحية بما في ذلك بعض النباتات إذا صدقت الكثير الدراسات الحديثة، إِذْ الكثير منها يموت لسبب نجهله، أو ترقص على إيقاعات وحدها تسمعها، لأن الكثير من إمكانات العقل البشري معطلة، فهو يعيش داخل خانات ومربعات صنعها لنفسه وتحولت مع الزمن إلى سياج لا يسمح له برؤية الأشياء خارجها.
الشجن يقع خارج هذه المربعات والمستطيلات والدوائر، فهو مثل العاصفة، تبدأ هادئة، غير مرئية لكنها سرعان ما تتحول إلى قوة جامحة، بلا حدود، قاهرة ومدمرة ولا اتجاه معين لها. الشجن حالة هشاشة مفرطة. عزلة وجدانية واستحالة نسترجع من خلالها شيئا انكسر ولم يعد ممكنا تجبيره أو استرجاعه، مثل الموت الذي لا يمكن فصله عن الشجن. لهذا البقاء في عزلة الشجن خطر، لأنه يذهب بعيدا بالهشاشة، وقد يكسرها أبدا. في هذا السياق يفرض الشجن اللغوي نفسه علينا بقوة لأننا بقدر ما نستعيد مآسينا، تتحول اللغة إلى نشيد حزين، مقاوم للانهيار.
لغة الشجن الغنائية تدخلنا في حالة من الصفاء تصبح فيها كل الأشياء التي ننشئها شديدة الحساسية، مرتبكة الملمس، جريحة الروح. أية هزة خفيفة تترك عليها آثارا واضحة مثل البشرات الشديدة النعومة، كدمات، بثور وجراحات صغيرة. ولأن الشجن اللغوي المكتوب، فيه الكثير من الصفاء، فعدواه كبيرة. ينتقل بسرعة ويستقر في النفوس بقوة. من السهل أن نذرف دموعا على شخص افتراضي (سينما، أوبرا، مسرح) في حالة شجن بعد فقدان ثقيل، حبيب، أم، والد أو والدة، أو عزيز، ونحن نعرف مسبقا أن الأمر لا يعدو أن يكون فعلا تخييليا، فيلما أو كتابا. الشجن الصادق يصل في النهاية بسهولة لأن له أدواته العميقة غير المرئية التي تنقله نحو الآخر القريب أو البعيد، المشجون، بسرعة الضوء وتهز أعماقه.
الشجن المفتعل الذي تفرضه ظرفية معينة، غير مقنع، تظهر اختلالاته بسرعة لأن هشاشة الشجن تجعله مستحيلة التمثيل، وحالة الصفاء لا إرادية، إما أن تكون أو لا تكون. فلا خيار أبدا. لكن معضلات الشجن أيضاً هي كونها أحيانا لا زمنية، أي أنه قد يحتل دواخلنا، أو نسكنه نحن طوعا. فيتحول الشجن معنا إلى حالة معطلة حياتيا، وربما مرضية أيضاً لأنّها تشلّنا وتحد من رؤانا في حياة تزخر بالفرص الثمينة التي يمكنها أن تقلب الأوضاع. بينما طبيعة الشجن العامة والإِنسانية هي أنه مؤقت وطارئ. حالة هاربة منفلتة من أي تعريف كما اللغة.
يوم فقدت والدتي على الرغم من سنها المتقدم، تسعين سنة، أحسست بشجن يستيقظ فيّ إلى اليوم بكل ثقله وحنينه وخوفه. لم استطع أن أنجز عزائي الداخلي. فشلت في أن أرى فقدانها كحالة طبيعية، وكأنه كان يجب أن تظل أبديا. يومها شعرت فجأة بالبرد في ظهري، وشعرت أيضاً، ولأول مرة، بالحبل سري ينقطع نهائيا بعنف شديد، وأُرمى بكلي في اللامكان، وبجسدي يعوم في الفراغ الكوني بلا رابط يعيدني نحو الأرض، وبكم من الشجن اليائس الذي لا يُقاوم. عرفت بعد سنوات سبب ذلك: نتصور دوما أن الذين نحبهم لا يموتون أبدا، ربما هنا مكمن المأساة إِذْ كان علينا أن نتدرب أبدا على الفقدان.
وهمٌ جميل هو الخلود، يظل يسكننا إلى يوم نفجع في عزيز، فنحتاج أكثر من غيرنا، إلى عمل كبير على أنفسنا، وإلى عقل واسع يستوعب حالة الفقدان ويتخطاها، وإلى لغة صافية كقطرة ندى، كشعاع ربيعي، تجعل المستحيل ممكنا، فتقرب نحونا كل الغائبين، ولا يهم بعدها إذا سكنها الشجن أبديا.
شجن مغربي
أحمد أبو دهمان: الرياض
في طفولته لم يكن يعرف من المغرب إلا الأذان، تلك اللحظة الفاصلة بين النهار والليل، الفاصلة بين العمل والنوم.
وفي المدرسة عرف أن هناك بلداً اسمه المغرب، وفتح له درس الجغرافيا خريطة العالم التي لم يكن في قاموسه منها إلا مصر.
ظل المغرب في مخيلته سحراً وساحراً في أقاصي الأرض، بناء يشبه القصائد ورجال لا يغادرون خيولهم.
لم يكن معنياً بالفتوحات الإسلامية ولا بعبور البحر وفتح الأندلس. كان مشغولاً بالبحث عن بعض أسرته التي هاجرت إلى هناك حسب رواية شيخ في القرية.
صدر كتابه الأول، ودعته السفارة الفرنسية للّقاء بالقراء المغاربة، قبلها كان قد زار المغرب مرتين: مع طفلته وزوجته، وكانت مراكش أول مدينة عربية تتعرف عليها أسرته.
وبدت مراكش كواحدة من أجمل مدن العالم، كان ذلك متزامنا مع الانتفاضة الأولى وعرض أول فيلم عن جنوب أفريقيا الصامدة في وجه الفصل العنصري.
مراكش والانتفاضة ومانديلا
شملت دعوة السفارة الفرنسية خمس مدن مغربية، لم يكن يعنيه في هذه الرحلة إلا البحث عن أهله. رافقه في جولاته سائق مغربي «شلحْ» اسمه محمد، أوهموه أن سيرافق كاتباً كبيراً وأوصوه بالعناية به.
بدا محمد خائفاً من هذا الوهم مبتعداً ما أمكنه، حفاظاً على نفسه ووظيفته، كانت كل آثار الطبقية الفاحشة في المغرب تتجلى في عيني محمد وسلوكه، يرتجف من نظرة، من كلمة، حاول الكاتب استئناسه، لكن الفوارق الوهمية أكبر من أن ترتفع عينا محمد من الأرض.
سأله الكاتب إن كان يعرف أحداً في المغرب يحمل نفس الاسم، قال محمد في طنجة. لم تكن طنجة على قائمة المدن المقرر أن يزورها، ولم يعد معنياً بالبحث عن أهله بقدر ما هو معني بتحرير محمد من هذه الطبقية القاتلة.
أصبح السائق مصدر إلهام للكتابة عن استغلال الإِنسان للإِنسان، وكيف يستطيع أحدهم أن يلغي الآخر، لكن الكاتب عفّ عن هذه الغنيمة، واكتفى بتقبيل جبهة السائق في لحظة مفاجئة، قائلاً: هذه قبلة من قريتي ومن بلادي، من أناس تشبههم ويشبهونك.
تلك القبلة رفعت رأس محمد واستطاع أن ينظر بعينيه إلى الوجه الذي قبّل جبهته، وانهارت في داخله كل الحواجز اللعينة، سأل الكاتب إذا كان سيقبل بدعوته للغداء في بيته، كانت هذه الدعوة أكرم من دعوة السفارة الفرنسية.
هاتف محمد زوجته وطلب منها إعداد الغداء، اشترى الكاتب هدية للبيت وانطلقا، دق جرس الباب، فتحته امرأة تشبه أخوات الكاتب، قال لعلها من أهله الذين هاجروا إلى المغرب، البيت مملوء بحفاوة لم يعهدها في حياته، حفاوة الإِنسان بالإِنسان.
جاءت القهوة والشاي المغربي قال محمد هذه زوجتي فاطمة التي لم تقابل أجنبياً في حياتها قبلك.
أهلا يا فاطمة، لديّ ثلاث أخوات كل منهن اسمها فاطمة وأنتِ الرابعة، جاءت بالغداء، قال محمد هذه الوجبة نضجت مرتين:
مرة في قلوبنا ومرة على النار، نسي الكاتب الغداء وانشغل بالعبارة.
الغداء لذيذ فعلاً لكن العبارة كانت من أجمل ما سمع في حياته، وكأنه سيعود من المغرب بأغلى الكنوز، تغدّت فاطمة معهما وكأنها كل نساء المغرب عرباً وأمازيغ.
الكاتب يعرف أن قبائل بجيلة من جنوب بلاده هي التي فتحت بلاد المغرب العربي، رأى في وجهها كل وجوه النساء في بلاده.
في المساء كان الكاتب مدعواً لأمسية في بيت الشعر في الدار البيضاء ولأنه يريد أن يتقاسم الجملة العظيمة مع أصدقائه وقرائه وأهله في المغرب، دعا محمداً السائق إلى الجلوس في الصف الأول، يا الله لو تعلمون كم تردد محمد، في ثقافته أنه للصفوف الخلفية جداً، إن لم يكن في الساحة.
تقدم محمد على استحياء محاطاً بنظرات الدهشة من الحاضرين، كان الكاتب على المنصة وطلب من محمد أن يكون على المقعد الذي أمامه، كبار المدعوين لم يستوعبوا ولم يعترضوا، كما لو كان الكاتب قد هدم كل الإرث الطبقي المغربي.
قال الكاتب جئت إلى المغرب بكلمات من بلادي، بلادي التي هي أصل كل ما هو عربي وإسلامي، إلى بلادكم التي هي دائرة كل ما هو عربي وإسلامي، جئت حتماً لأتعلم.
منحني المغرب اليوم جملة لم أسمعها من قبل:
«عندما أحضرت فاطمة غداءنا اليوم قال محمد: هذه الوجبة نضجت مرتين: مرة في قلوبنا ومرة على النار». كان الكاتب يقولها والدموع في عينيه، وطلب من محمد أن يقف فاهتزت القاعة بالتصفيق لمحمد، لفاطمة وللمغرب.
«شَجِنٌ عليها»
محمد الشلفي : الأردن
«شجِنَهْ عليك» اعتادت أمي قول الجملة لي في صغري بعد كل غيبة يتلوها لقاء، ولأنها أمي، فقد وثقت بحدسها الفائض بداوة في استخدام الشجن بتلك الصيغة وكان لها وقع آسر حين تذكرتُ مع بداية شغفي باللغة.
لا حدود واضحة بين ما رشَح في اللغة من حالات النفس: كالشجن، والشوق، والحنين.. إلخ، جميعها، ما إن تبيّن حتى تنسى، فهي متشعبة تأخذ من الحزن لتكتمل، كما تأخذ من الحب وحالاته من اللوعة، واللهفة، والحزن، والأمل ومشاعره المُختلطة والمتقلبَة.
في اشتقاق أمي الذي تقوله بلهجة حانية، الشجن يعني: تمثُّل المحب لحالات حبيبه البعيد والانشغال بحاله، كيف يعيش ؟ حزين أم سعيد ؟ معتل أم صحيح ؟.. وكثيرا ما عاجلتني أمي باتصالٍ لتسألني عن حالي وأنا في مدينة بعيدة عنها، جازمة بأن شيئا حدث لي كما يقول قلبها.
إنه تشابك الأرواح في مصائرها بين عاشقين، وحبيبين، وعزيزين، مع وجود مساحة «زمكانية» تمنع التلاقي، كأن يكون كل منهما في بلدين مختلفين، أو الانشغال بالذكرى انشغالا باعث للحزن والشوق والحنين والتوجع.
في معجم المعاني ترد «شجَنٌ» بمعنى : شجِنَتْ الحمامة شجُونا: ردَّدت صوتها، وعدَّت العرب نواحا. والأمر فلانا شجْنَا: أهمَّه وشغَله. وأحزنه. وشجِنَ شجنا: حزِنَ فهو شجِنْ. أشجَنَ الكرْم ونحوه: تشابكت فروعه والأمر فلانا: أحزنه.
من الانشغال يتولَّد الحزن، بدرجة فاتحة لو اعتبرناه لونا، وحدُّه الأدنى الرغبة في معرفة حال ما أشجننا، وما تجاوز ذلك أحال إلى شعور مُختلف.
درجة الحزن الغامقة في الشجن تكون حنينا، «الحنين» كشعور عميق بالحاجة إلى لقاء ما نحن إليه من المألوف سواء وجد أو فَني. وتكون شوقا «الشوق» كشعور بالتعلق والتلهف لرؤية ما نريد مع وجود إمكانية وإن كانت مجرد اعتقاد بداخلنا لا يُصدقه الواقع.
أعود إلى أمِّي، فقد كبُرتُ أنا، ولم أضع حقائبي وزادت مرات ارتيادي لطرقات السفر، وأصبحت أمي في كل غيبة تخاطبني قائلة: نُريد رؤيتك تعال عندنا، فلم عُدت ذاك الصَّغير الذي غادرها ليدرس في المَدينة لتظل هي منشغلة بأحوالي، فقد انتقل الشجَنُ إلي، وكم يشغلُني ويُهمُّني حالها حفظها الله.
الفراتُ يغنّي لأبنائه
رحب علواني: مانشيستر
بانتظار لُقيا نجم سهيل في «آب اللهاب» أواخرَ الصيف، لا شيء يشفي سعيرَ الويل سوى ليلُ الفرات.. فراتُنا لا سواه، أصلُ الشجنِ ومنتهاه.. ما يدمي الفؤاد هنا أنّ بين فراتِنا وفراتِ لندن كوكبانِ وحلم، وثلةٌ من النجوم.. والمفارقةُ هاهنا تغفو، فصيف هذي الأرضِ الغريبة أشدُ برداً من شتائها، نعم.. هذا ليس مجازاً أو ضرباً من الجنون، فالمسألة هنا نسبيةٌ بالمُطلق، إنّ صيفاً مطرُهُ يبلّل المارّةَ ويغسِلهم كلَّ مساءٍ.. لا يُعوّلُ عليه!
أمّا صيفُنا الحارقُ فمفعمٌ بالمعنى رغم قسوته، غارقٌ بالحبِّ رغمَ جفافِه، حلوُ الأمنياتِ أيضاً.. رغمَ مرارته... اعتادَ أن يطلَّ على فراتهِ ساعةَ الغَسقِ الأول ناعسَ الطّرفِ مهلهلَ الثوب، متقاربَ الأهدابِ وداميَ المقلتين، رافعاً كل عباراتِ العتبِ والأسى لمفارقِه، مثلَ أم تقبّلُ صورَ وحيدِها ليلَ اغترابِه الأول.. أتراه لا يزال كذلك؟ لا ندري. وكيف لنا أن ندري وقد حُجبت عنا رؤيته بسيف من أبعدونا عن ديارنا رافعينَ اسمَ الله زوراً وبهتاناً.
لا أزال أذكرها.. حين تلملمُ حمائمُ مدينتي أسرابها حول المآذن عند المساءِ، فما إن تصدحِ المآذنُ عالياً حتى ينطلقنَ، صافّاتٍ ويقبضْنَ، شاغلاتٍ قعر السماءِ بنقشٍ واثقِ الخُطا، مكمّلاتٍ سحرَ المشهد بلوحةٍ متجدّدةِ المعالم، لتتلاشى بعدها الشمسُ وراء النهر معتصرةً حزناً لفراقه بضع ساعاتٍ خلال الليل. عندئذٍ تُشهر ساعاتُ المغيب حدادها علينا فتكتسي بالسواد رويداً رويداً وتنصبُ بين حنايا الليل.. خيمةً للعزاء. كان هذا هو الحالُ قبل الصيحةِ الأولى.. لكنها اليومَ تبدو وكأنها قد نصبت خيمةً أبديةً مغروزة الأوتادِ بعنفٍ بالغٍ وسط أفئدة أهليها، خيمةً سوداء مكفهرّة، معلنةً أنه قد كُتب الحدادُ اللا منتهي على أرض الفرات، أرض الشجن.. ليمضي من تبقى من عشاقها مُشذّرين فرادى يجوبُ واحدهم ضفاف العمر مُجدِب القلب مطأطئ الناصية، ينظرون البعث الأخير، بعد أن كان الفراتُ، فراتُهم، بضفافه الرطبة ملجأً للأرواح حوله، يرِدونهُ من كلّ صوبٍ سحيق.
لكنّهُ يغنّي..
كان، كما كان دوماً، يغني.. ولا زال.. أعرفتَ من يطربُ لجزعِهِ مثلما يطربُ لجَذَلِه؟ هو الفرات.. فراتُنا الذي اعتاد أن يسقي عطاش الروح والجسد من ذات الكأسِ بآن.. لاغياً كل ما قيل بعيداً عنه في نظريات الفلسفة.. ملقّناً أبناءه كتباً ودروساً في العصيان.. إِذْ علّمهم كيف يصير جوى الأيَّام بحوزتهم أغنيّةَ حبٍّ عذبة.. علّمهم كيف القلبُ يذوبُ أسىً في لحظةِ فرح ومسرّة.. علمهم كيف يموتُ الشّجوُ على صدر الأيَّام وحيداً حين تغني «الموليا» خمسُ صبياتٍ سمرٍ بجدائلهنّ المحمرّة.. علمهم كيف دموعُ الحبّ تصوغ عقوداً إن هي صارت أنهاراً تنتحبُ على عنقِ المحبوب.
ليسَ اقتباساً من درويش.. بل لأنّها قد فعلت ذلك حقاً إِذْ قالت لنا الأرضُ أسرارها.. في شهرِ آذار، ثمّ كذلك فعلَ الفرات، فراتُنا، والذي علمَ تماماً أن مطرَ صيفهِ «موهِمٌ»، لا يبلّلُ المارة، فأمسى يئنُّ منكسراً كل مساء، يخاطبُ كلَّ من هجره - مرغماً أم مختاراً - بعتبٍ ممزوجٍ بحسرة محشرجة، ويغنّي:
«ردتك تمرّ ضيف.. ردتك تمرّ ضيف»
كيف؟
كيفَ له أن يمرّ.. وكلّ وجعِ هذه الأرض ينام هناك.. على ضفاف الفرات!
الشجن البرتغالي
فادي عزام : سوريا
دخلت فرقة «الفادو» فساد الصّمت وبدأ الشّجن، من طقوس الاحترام في المطاعم حين يبدأ المغني بالبوح تتوقف الأحناك عن الطّحن. وينفتح الفضاء على الأغاني المغموسة برجع حركة الموج، شيء من الحزن نعم، شيء من الألم نعم، شيء عن الهجران والغياب نعم، شيء من الأمل نعم هذا هو الفادو كما أحسسته.
حاول أنطونيو أن يترجم لي بعضا من المعاني قلت له، لا عليك دعنا نسمع. انتهت الوصلة الأولى، عاد رويداً صوت ارتطام الملاعق والأشواك والسّكاكين بالصّحون ليتابع السّاهرون المجزرة بالحيوانات البحرية المشوية والمسلوقة والمحروقة والمقلية بلا رحمة. وحده الشجن يعيد تشكيل الفادو على شكل مدندنات لا تتوقف.
في الطّاولة المجاورة، وجد أنطونيو مجموعة من أصدقائه، اعتذر مني قليلا وانضمّ إليهم. فتحت دفتري الصَّغير، بحثت عن القلم حتى وجدته. كم هو مخيّبٌ ألّا تجد قلماً في تلك اللحظة.
لتكتب: أوامر أصوات الفادو.
افتح.. القلب انسَ الجرح.
اجرح الوردة لا تقتطفها.
اطفح بالكيل.. فكلّ من غارَ ثار.
اسرح في البياض، فقوس القزح وجهٌ آخر للسراب.
امرح بعفاف النشوة، فلوثة الأسلاف لا تفرق بين مدح الغياب والاغتياب.
اشرح صدرك ولا تدع عنك وزرك.
اشلح هذا القناع، فالقاع مظلم ولا أحد يراك.
ارمح بعيدا فكل بقاء هو ظلٌ للفناء.
افرح، كعنقود عنب هدَّه التعب، فصاح... «نبيذ».
اقدح ولاعة الأيَّام بحجر قابيل، إنه تجلي الأصيل في الجليل.
اطرح ما أثقلك فكم من هوى، كبّلك!
اسمح للغيمة أن تعكر الصفو. فالسماء إن صَفَت عَطَّشَتْ.
اكدح بالانتظار وكأنه مشوار.
افضح السر لا تبح به.
اسبح في «عين الحياة» كدمعة واصفح عنها كغريب تلألأ بها قليلا وانذرف.
امنح الحب كل أسرار الجبّ فيوسف ليس بريئا إلى هذا الحد.
اشلح التصنيف، لا تستخدم الذاكرة أمام الموج.
انكح الفكرة، دعك من الشريك.
ابرح القارب، امتطِ الرمل فأناشيد الموج لا تعيد من أغرقتهم العاصفة.
فقط
لا تمزح في القُبلة، فكم من قبلة كُسِرت قافها! ونشف منها الريق.
يعود أنطونيو في التّوقيت المناسب، لننطلق في الليل، نجوس الدّروب الخلفية للمدينة البيضاء المليئة بالضوء والفادو، ندخل حي ألفاما حيث ولدت هذه الموسيقى الغريبة منذ أكثر من مئة وخمسين عاما، أنطونيو يقول إن الفضل فيه يعود للعمال والفقراء البرازيليين الذين تزاوجوا من البرتغاليين، الفقر أنتج الفادو، وكل فقر حزنٌ، وكل حزن يحتاج نهراً أو بحراً ليصبح موسيقا، ولكن لشبونة غمسته بالأمل.. ليس مثل الفرات وأغاني الشّجن الغارقة بالغياب والأنين والعذاب.
متحف للفادو، مدارس للفادو، ومعظم مغنّيه من النّساء، فهن من ورثن البحارة الذين غادروا ولم يعودوا. مغني الفادو يصبح فاديستا، أي الذي ينزف ألماً مصحوبا بالقيثار، وأملاً يداعبه الكونترباص، لكنّه ليس برتغالياً خالصا به مسّ عربي وإفريقي، وحزن أكبر من هجران محبّ، وألم سيدة على الشّاطئ تنتظر حبيبا.
إنّها بجوهرها، مسروقة من تلك الآلام العظيمة للفقراء. لمحنتهم وهم يواجهون القسوة من إخوانهم البشر وليس من القدر. طورتها لشبونة ووضعتها اليونسكو على قائمة التّراث العالمي. سيجدها السّائح بليد القلب أنّها مملّة. والعابر الزائر أنّها ملهمة. سيراها المهاجر أنّها ترجمة غير حرفية لأغانيه التي أودعها هناك في بلده. وأجدها تليق بهذه الليلة التي لم نتوقف فيها عن المشي حتى طلع الصّباح فصعد بي أنطونيو إلى أعلى تلة في لشبونة وراقبنا شروقاً مخمراً بالجمال الخالص.
هناك على تلة من بقايا الأندلس يخرج صوت زرياب وشجى الولادة بنت المستكفي ولسان الدين بن الخطيب فأذوب في قاع هذا الشجن.
ماله أيقظ الشجون ؟!
الصادق الرضي: السودان
صورة الشاعر الأولى في الذهن تكونت عندي على المستوى الشخصي في مدارج الطفولة وبداية تحسس التصور في القلب والوجدان من بوح الشاعر إدريس جمّاع (1922 - 1980م) صاحب ديوان «لحظات باقية» الذي جُمع وصدر إثر رحيله، وقصائد جمّاع كنا ندرس بعضها من ضمن مادة (الأدب والمحفوظات) في المرحلة الابتدائية، وبعض قصائده الفصحى كنا نستمع إليها أطفالا من إذاعة أمدرمان القومية بأصوات عدّة مطربين عرف عنهم اهتمامهم بانتقاء النص الشعري الفصيح وتقديمه للجمهور، من بينهم «سيّد خليفة» الذي تغنى لجمّاع بأشهر قصائده «أعلى الجمال تغار منا» وخرائد أخريات، ومن بينهم «عبدالكريم الكابلي» الذي أنشد له هذه القصيدة:
«ماله أيقظ الشجون فقاست وحشة الليل واستثار الخيالا / ماله في مواكب الليل يمشى ويناجى أشباحه والظلالا / هين تستخفه بسمة الطفل قوي يصارع الأجيالا / حاسر الرأس عند كل جمال مستشف من كل شيء جمالا / ماجن حطم القيود وصوفي قضى العمر نشوة وابتهالا / خُلقت طينة الأسى وغشتها نارُ وجدٍ فأصبحت صلصالا / ثم صاح القضاء كوني فكانت طينة البؤس شاعراً مثّالا / يتغنى مع الرياح إذا غنت فيشجي خميله والتلالا / صاغ من كل ربوة منبراً يسكب في سمعه الشجون الطوالا / هو طفل شاد الرمال قصورا هي آماله ودكَّ الرمالا / كالعود ينفح العطر للناس ويفنى تحرقاً واشتعالا».
شكّل إدريس جماع في قصيدته هذه صورة الشاعر كما يراه أو كما يشتهي أن يكونه أو ربما كانه فعلا في نهاية الأمر، يبدأ خلق الصورة هنا بسؤال حول دافعه لإيقاظ الشجون حتى تقاسي وحشة الليل، ليتغنى بعد أن يتخلّق من طينة البؤس مع الرياح إذا غنت فيشجي خميله والتلالا؛ هذا أول ما خطر في بالي وأنا أتأمل في أمر «الشجن» بدأت أنشد عفويا أبيات الشاعر الراحل جمّاع وأحفظها عن ظهر قلب، والشعر هو ضرب من الشجن، والغناء هو الشجن ذاته، وما هو الشعر والغناء وكيف نتلمس الخيط الرفيع الذي يفصل بين صورة الشاعر والمغني إن كان ثمة ما يفصل بينما بالفعل؟، وتذكرت في السياق، ديوان الشاعر محمد محمد علي (1922 - 1970م) الموسوم بـ «ألحان وأشجان» ومحمد علي صنو الشاعر جمّاع ورفيق طفولته وصباه، كتب مقدمة ديوانه هذا، شيخ شعراء السودان محمد المهدي المجذوب (1919 - 1982م).
والشجن يتجلّى إِذْ يتجلّى حين تنظر في عين المحبوب حاضرا أمام عينك أو غائبا وحاضرا في الحلم أو ربما كان المحبوب نفسه ليس متجسدا ليحضر في الواقع المعيش، ربما كان هو في الأصل حاضر في الغياب تجسّدا، والشجن ضرب من الحنين، ابن أمه وأبيه وهذا ما يمكن أن تحسه وأنت تقرأ معي من شعر شيخ شعراء السودان «المجذوب» في خريدته «رقصة الحمامة»:
«فَرْحةٌ زفّها الغناءُ فزافتْ، نغماً ذا ضفائرٍ يتثنّى / عريتْ تحت ثوبِها نشرتْ منه شراعاً طوى فراراً وسجنا / أمسكتْ منه طائراً خافقَ الريشِ رهيناً براحتيها مُرِنّا / كم روتْ فيه كيف تشتاق في الليل وشادي عبيرها كيف حنّا».
والشجن أيضاً مناجاة تشبه في خاطري ووجداني ما صاغه شعرا «حسين بازرعة» ولحنا وأداء الفنان السوداني عثمان حسين، في لغة عامية:
«لمتين يلازمك في هواك مر الشجن / ويطول في أيَّامك سهر / ويطول عذاب / يا قلبي لو كانت محبتو بالتمن / يكفيك هدرت عمر / حرقت عليه شباب».
من خرائد الغناء السوداني، ومعلقاته الذهبية في الوجدان، حين يناجي ويتناجى، وهو يشجو ويشجى، في ليلات الأسى والحنين.
أرض الشجن
فدوى علي: تركيا
نَحْنُ أدْرَى وَقد سألْنَا بِنَجْدٍ
أطَوِيلٌ طَرِيقُنَا أم يَطُولُ؟
وَكَثيرٌ مِنَ السّؤالِ اشْتِيَاقٌ
وَكَثِيرٌ مِنْ رَدّهِ تَعْليلُ
كُلّمَا رَحّبَتْ بنا الرّوْضُ قُلْنَا
حَلَبٌ قَصْدُنَا.. وَأنْتِ السّبيلُ
أتراه سيعرفها المتنبي إن قام من مرقده ومرّ بها؟ أتراها لا تزال مقصده دونَ كل رياض الأرض؟
«يا رايحين ع حلب..»
تخبرنا إحدى الأساطير المتوارثة في بلاد الشام عن «الروزنا» أن السلطان العثماني في أوائل القرن العشرين أصدر إعلاناً مجحفاً يقضي بالسماح لسفينةٍ تجاريةٍ ضخمة محملةٍ بالتفاح الأوروبي، قادمة من الشواطئ الإيطالية، ببيع بضاعتها في أسواق بيروت وقرى الجوار، كان اسمها «الروزنا»، مانعاً بذلك مزارعي التفاح اللبناني والفلسطيني وسائر بلاد الشام من بيع ثمار أراضيهم في المنطقة كما عهدوا أن يفعلوا قبلها، مما ألحق بهم خسارةً جمة وكساداً في المحصول. لمّا علم تجار حلب بهذا المصاب قرروا مد يد العون لأشقائهم بالدم، فما كان منهم إلا أن حاكوا خطةً ذكية لتمرير التفاح البيروتي والفلسطيني إلى أسواق حلب دون علمٍ لوالي المنطقة، واعتمدت خطتهم على أن يَتمَّ حشو الصناديق الخشبية المخصصة لنقل الثمار بالتفاح ثم تغطيتها بالعنب من الخارج بشكلٍ محكم لئلا يلحظ «الدرك» على نقاط التفتيش وجود التفاح بين البضائع المنقولة، فأنقذوا بذلك تفاح بلاد الشام من الكساد ووزعوه على أسواق حلب وجوارها وصدروا بعضاً منه بذات الطريقة إلى الموصل وشمال العراق.
هل رد مزارعو بلاد الشام جميل إخوتهم لهم؟
«تراب حلب...»
تصيح راعية الماعز بلهجةٍ حلبيةٍ ثقيلة:
«درب حلب.. ومشيتو..
كلو سجر زيتون»
يجيبها صوت الغياب:
«حاج تبكي وتنوحي بكرة بنجي يا عيوني»
تناجيه مرهقةً:
«وعلى بكرة.. وعلى اليوم..
حيلي انتحل.. يا ويل ويلي..»
تقول إحداهنّ:
لم تكن حلب المدينة الهادئة نسبياً قد انضمت بشكلٍ صارخٍ للحراك الشعبي في بواكير الثورة، على عكس ما فعلت في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وبالطبع، على عكس ما هي عليه اليوم. كنتُ يوماً أسير في إحدى القرى السورية جنوب البلاد باحثةً عن ترابٍ أغرس فيه «الزريعة» الشامية التي اشتريتها مؤخراً، وكان أبو أحمد - صاحبُ أحد مشاتل الحيّ - حلبيَّ الأصل - هذا ما لم أكن أعلمه آنذاك - وحين سألته عن أنواع التراب التي يملك ويبيع، والتي يمكن لها أن تحتضن شتلتي الصَّغيرة لتكلأها وترعاها، أجابني بأن نوعاً جيداً ملائماً من التراب سيصل إلى مشتله خلال أيَّام قلائل، وأضاف «ترابٌ حلبي، سيصلنا من حلب قريباً» فما كان مني إلا أن تجهّمت وتلكأت - لِما حملتْ حلب حينها من سمعةٍ «موهمة» تفيد بتبعية أهلها للسلطة الجائرة - وأجبته: «ترابٌ حلبي؟ لا نريده إذن.. نحن لا نريد من تراب حلب يا عمّ» صمت الرجل قليلاً، أدرك ما رميتُ إليه، وأجابت دمعةٌ أبرقت في عينه قبل أن يجيب لسانه قائلاً: «يا بنتي.. ترابُ حلب أصيل.. وأهل حلب مثله.. لكنهم قد جارَ الزمان عليهم فظُلِموا.. وكم من مظلمةٍ كشفتها الأيام!» قلتُ له لنرَ.... أشاهد اليوم تراب حلب - الذي لم أرغب بشرائه قبل خمسة أعوام - رطباً، معجوناً بالدم، وتماماً مثل أبي أحمد، تجيبني دمعتي قبل لساني «واحسرتاه.. على ترابِ حلب».
أسِيرُ عَنهَا وَقَلبي في المُقَامِ بِهَا
كأنّ مُهرِي لِثُقلِ السّيرِ مُحتَبَسُ
كأنّما الأرْضُ والبُلدانُ مُوحشَة ٌ
وربعها دونهنَّ العامر الأنسُ
مثلَ عشقِ كلّ ساكنيها لها، وزائريها، عرف أبو فراسٍ حلباً، فهام بها، وظنّ لشدةِ عسر السير بعيداً عنها ومرارتِهِ، أن فرسه قد حُبست عن المسير، وأن كلّ بلاد المعمورة موحشاتٌ مجدبات..
ووحدها حلب أرض الأنسِ والجمال.. وحدها حلب.. أرض الشجن.
يا حادي الشوق...!
محمد جميح: اليمن
هذه الروح غابة من الأشجان التي تتناسل، لا ننتهي من شجن إلا إلى شجن. نحن الذين طوَّحتنا المنافي والقطارات والموانئ والمطارات، نحن أهل الشجنن وخاصته.
تتناسل أشجاننا تناسل الجراد في حقل الروح. لا ندري نأسى لفقد وطن غادرناه ذات ضحى، غير مدركين أنه تسلل مع تذاكر السفر إلى سلم الطائرة التي أقلتنا إلى «البلاد التي تموت من البرد حيتانها»، كما قال الشجيُّ الأكبر الطيب صالح - طيَّب الله ثراه .
كنت في صنعاء ذات زمان، أطوف من مقيل أدبي إلى آخر، من عبد العزيز المقالح، إلى عبد الله البردوني، إلى حسن الشرفي، إلى خالد الرويشان، إلى أحمد ضيف الله العواضي، إلى مقيل روحي مترع بالشجا في منزل قديم في مدينة صنعاء التاريخية، حيث نتناول شيئاً من القهوة والشعر الممزوج بالتصوف المحلق، والتسابيح المسافرة مع مآذن المدينة القديمة.
أتذكر كل تلك الليالي الحالمة، وجلسات الشعر في مقائل صنعاء، وبيني وبين صنعاء مسافات روحية ومادية وزمنية تكاد تكون فلكية. أتذكر كل ذلك، وأنا هنا في مدينة الضباب، وقد تحولت مع الزمن إلى قلب رخامي، وآلة بشرية تتحرك ضمن سياق عام لآلات تكتظ بها شوارع لندن، تدخلها وتخرج منها كل يوم في حركة تبعث على نوع من الجفاف الروحي لا تجود بمعالجته إلا صنعاء.
الشجن هنا في هذه المدينة يأتي من الإحساس بالفقد، الإحساس بالفقد يكاد يتحول إلى طعم يتذوقه اللسان، يترك فراغاً هائلاً في القلب، وفجوات روحية تبعث على الوله، فقد الوطن، فقد الأحبة، فقد الزمن والقصائد والتسابيح.
كان لي في صنعاء أصدقاء أذهب إليهم بعد الظهيرة، وأعود عند المساء، محملاً بروائح قهوة المقيل، وعبق الحروف التي تعاطيناها على حين غفلة من زمن كان يخبئ لنا «غربة»، لم تكن لنا في الحسبان.
«شلة الأنس»، اليوم واحد في الهند يحدثني عن مطاعم «دلهي» التي تحتاج إلى حلق «مبلط» لنزول كميات هائلة من البهارات الحارقة، وصديق آخر هجر المقيل إلى جامعة في دولة عربية للتدريس، وثالث الأصدقاء ترقى في السلك العسكري، إلى أن ذهب إلى ربه على يد رجال القاعدة الذين يختبؤون لنا في منعطفات اللغة العتيقة، ووسائل التواصل الاجتماعي، أما نجم «شلة الأنس»، فقد قتلته جماعة الحوثي، ولأنه كان «ناصبياً»، وعميلاً لقوى الاستكبار العالمي، ولأمريكا وإسرائيل.
أقلّب شاشات التلفزة، كل مساء، لعلي أرى وجه تلك الصنعانية التي كانت فتنة القصائد، ومعلقة الأشعار، لكني لم أعد أرى من وجهها الحقيقي غير برقع أسود علقت عليه شعارات الموت، وصور رجال العصابات، وتجار الحروب.
صنعاء مدينتي التي أحببت، كما لم أحب أنثى من قبل، كانت، كما كنت، على موعد مع قوى الشر التي قذفت بي منذ سنوات إلى جوار «الدببة القطبية»، وقذفت بصنعاء إلى أعماق «كهوف التاريخ»، حيث ثارات صفين، وكربلاء، وأحقاد بني هاشم، وبني أمية.
واليوم على ضفة «التايمز»، وعلى جسر «واترلو» تذهب بي لحظات الحضور، والتوحد إلى ما وراء هذه المدينة الغربية المصنوعة من الحديد والإسمنت، إلى حيث مدن الشرق المصنوعة من توله الروح، وثغاء المراعي، ومعنى رهيف ألقي على قارعة الطريق، قبل أن يتعلق في بيت من الشعر، أو مثل سائر، أو قول بليغ، أو ريشة فنان يمتهن رسم عيون الصنعانيات.
إلى اللقاء يا صنعاء...
إلى اللقاء في يوم قريب تعودين فيه كما أنت بعيداً عن تجار الحروب، وتجار الأديان، وتجار السياسات التي جعلت أحد أبنائك منفياً فوق الأرض، والآخر منفياً تحتها.
ألا أيها الركب اليمانون عرِّجوا
علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
ابنة الشجن
مريم ناصر: الإمارات
أنا يا عصفورة الشجن
مثل عينيك،
بلا وطن..
ممتنة أنا للشجن..
ممتنة لأنه هذب روحي وأشياء أخرى!
أسوأ الشجن ذاك الذي يغزوك و أنت بعيد عما تحب، بعيد عن صباحات وطنك،بعيد عن رائحة أمك ،بعيد عن ابتسامة والدك ، بعيد عن شغب أخوتك ،بعيد عن التفاصيل التي ظننت أنك ستكبر ، وأنها ستكبر معك.
لكنه الشجن الجميل، الذي يجعل الأشياء التي تحبها حية في قلبك، يجعل روحك مشحونة بكل التناقضات الممكنة. حالة الشوق التي كانت تغزوني في غربتي القصيرة كلما مرت بي نسمة هواء وتجعلني أررد معها بحب وحزن و شجن ومرارة «يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي»، أبكي قليلاً ثم ابتسم لأن هذا الشوق والفقد يجعلني أتمسك بالأشياء التي أحب أكثر. خوفي أن أكبر في غربتي وتنسى بلادي وجهي «كما بشرت فيروز في إحدى الأغنيات»، كان الخوف الذي جعلني أعد نفسي أن أكون طفلة دائماً أن لا أكبر على الحب و اللهفة.
معه تعلمت الصبر لأكسر الشوق وأغذيه بحب و تروي، تعلمت التغلب عليه بتأمل الجمال من حولي،خصوصاً تلك الأشياء التي لم تكن تثير انتباهي من قبل.
أتخيل الشجرة التي كانت تحزنني من قبل لأنها تذكرني بالسدرة العتيقة أمام منزلنا ،تذكرني بنخلاتي وبقساوة الصحراء التي نمت فيها ،أرى الشجرة في غربتي فأستبدل حزني و ما تذكرني به بتأملها وهي تعانق بجمال أخاذ شجرة نمت بالقرب منها،في رقصة عشاق أمام عيني، وأنسى للحظة شوقي المستبد!
استمتع بصوت الثلج الذي يتكسر تحت قدمي وحين أتذكر جمال ندف الثلج ،التفت خلفي واعتذر لكل الندف الهشة التي تكسرت تحتي!
الشجن المتسع لكل الأشياء الموجعة،أتسع أيضاً لابتسامتي التي أغالبه بها.
لا أعرف إن كان الشجن ابن الحزن، أو ابن الشوق ، لكن أعرف أني ابنته، واني مثله مزيج من كل شيء.
وأعرف أيضاً أن الشجن أبقاني حية وقوية ولم أمت به،أعرف أنه جعلني أكتب أكثر، أقرأ أكثر، أبحث عن الحياة في الشعر، في وجوه الغرباء و الثرثرة العابرة معهم وأعرف قبل ذلك كله،اني متصالحة مع شجني! مع عصفورة الشجن التي تغرد في صدري وأبكي حيناً وأغني معها في حين آخر، وأحياناً نرقص معاً حتى نتعب فتطير من صدري وتحط على كتفي تأخذ كفايتها من الجمال، قبل أن تعود من جديد لصدري.