ياسر حجازي
(متن الهامش/1.. بروايته)
أفرطتُ في الظنّ، كدتُ أتيقّن منه دون رؤية الحالة بعيون مختلفة، وقد سيطر على بالي: أنّ تعليقي على قصّة: (المجاورة والمواراة) أزعجكَ، ما جعلك تتوقّف عن إرسال مخطوطات كتاباتك لقراءتها وتعديلها إن اتفقنا قبل اعتمادها للنشر، كما تعوّدنا، منذ تعلّمتَ (أنتَ) الكتابة والإبداع، وتعلّمتُ (أنا) القراءة والمراجعة. أعرف أنّك تتحيّن الوقت حتّى تقلعَ عن إدمان الكتابة؛ (أكره الكتابة. وكذا الذي أرجعك إليها يكرهك، وأرادَ بك جحيماً وراده كلّ من يكتب وما زال عالقاً بالشكّ واليأس من جدوى الكتابة. لا توجد حقيقة. اتّفقنا؛ فلماذا هذه الملعون المباركة، هذه الكتابة).
قد نألف أنّ الظنَّ في الأمور مقرَّهُ في مكان يجاور مضغة اليقين، في القلب، ونغفلُ أنّ الظنَّ سكّينةٌ مسنونةٌ، إذا لم يُتقن المرءُ موسمَهُ أعطبتْ غفلةَ القلب، ثمّ رافقَ العطبَ اضطرابٌ لا يطمئنّ إلى مستقرٍّ. أعرفُ رأيك عن الوعي والمقاصل التي ينصبها في خيالات المصدوم بوعيه دون أناة وتحمّل، ولكنّ الضربات التي يلحقها الشكّ تَشبه الضربات الكهربائيّة في حالات إنعاش القلب والنفس.
لم أصدّق تبريراتك: أن الدوامَ اليومي/ التزام الكتابة الأسبوعيّة لثقافيّة الجزيرة رغم محاولات خجولة للتملّص من ذاك الالتزام/ وإصرارك على اغتنام السعادة اليوميّة بالجلوس أكثر وقت ممكن إلى جانب صاحبتك وبناتك في بحبوحة حرية الوقت/ كلّ ذلك حال دون كتابة قصص جديدة. الغوصُ في الملذّات والنعم وجهٌ من أوجه اليأس، وأخشى أنّك قد عدت إليه حجّة لإدمانك المزح والفرح. (ولماذا تدمن الجدّ؟ جرّب اليأس على أنّه ممحاة للحقيقة التي يلهث خلفها الأملُ).
(أجزاء من الباقية: بروايتي)
(قبل موسم التوت)
أحدّق في كلّ تفاصيلها، اكتشفُ أشياء في الجسد لم أكن أراها رغم أنّها لم تكن مخفيّة عن عيني، كأن هذه الأجساد لم تكن قبل هذا النهار، قبل صالون بيتنا وقد اندهشتُ بهذه الزائرة الفاتنة، قبل هذا الموسم الذي فاجأه التوت باكراً؛ كانت ترتدي تنورة قصيرة، قليلاً فوق الركبة، ذات لونٍ توتي غامق يجعل ذاكرتي محتشدة بهذا اللون الفاتن، وفي الأعلى ترتدي بلوزة سوداء ضيّقة ملتصقة ومشدودة تحت إزارة التنوّرة؛ صادف أنّ شعرها يميل إلى حمرةٍ داكنة مع سواد، وكان قصيراً، قليلاً فوق الرقبة.
(قارئ)
كنتُ أقرأُ عليه الشعر، فإذا ما أسرعت في الإلقاء طالبني أن أترفّق حتّى يتمكّن في سمعه الإيقاعُ؛ لم يكن قد اطّلع كثيراً على الأوزان والبحور، ومثله لم اطّلع، على حبّنا للشعر؛ يقارن قصيدة بأخرى، وإن أخطأت في بعض الكلمات لغياب التشكيل أو عثرة لسانٍ في الإلقاء فإنّه يكتشف الخطأ من باب الجرس الموسيقي.
(سبت)
يَسترخي نهار السَّبْتِ. يَرتاح عَشيَّ السَّبْتِ.
يكونُ النَّهارُ قد أوشكَ على نهايتهِ، حينما يعود من عمله ليسرق قيلولة تعوّدها وتعوّدته، لا تتعدّى ربع ساعة، قيلولة يحسده عليها أعداؤه، ويغبطه عليها أحبابه. (لاحظ الفرق بين الغبطة والحسد، ياللغة إذا كانت انعكاساً للواقع ويا لها إن كانت مجرّد كاذبة ومبرّرة لتناقضاته وتوحّشه، لم أحسم أمري بعد: أيّهما أكثر توحّشاً أيهما أكثر رأفة: اللغة أم الواقع؟)
هل نمتُ حقاً؟ يعرف أنه نامَ، لا من الوقت الذي مضى فحسب، بل من روحه الذي ينهض في همّة بعد أن استلقى همداً على السرير.
(موسيقى)
قابله على عجلٍ في السوقِ، مرّ عشرون سنة على آخر لقاء بينهما، منذ حفل التخرّج المنكوب في كلية الطب، هكذا نعتوه الذين تخرّجوا وشاهدوا وشاركوا ما وقع بين الدكاترة والخريجين؛ كانت تصفية حسابات بين جيلين كلاهما يقدّم التصفيّة على التسوية، كلاهما يظنّ الدنيا رأساً لا تسع قبّعتين؛
• مُرّ على عيادتي، خليني أفحص سمعك؛ أما زال الرنين؟
• وأنتَ أيضاً، مُرّ حتى نشوف قلبك؛ أما زال الاضطراب؟
(قبل موسم التوت)
لها من الصفات ما يحمله اسمها من معاني: لم تظهر حزناً رغم سلسلة من وقائع مأساوية فُرضت عليها إبتداءً بولادتها والتربية العنيفة التي حظيت بها من والدتها، مروراً بترمّلها على عمر دون الثلاثين وانتهاء بوفاتها؛ كان صوتها جميلاً وذا شجن مفرح، وليس شجناً يآساً، حتّى حين تغنّي «عدت يا يوم مولدي» كانت تبتسم، ولا تسمح للأسى أن يزيح الابتسام عن محياها. كان طفلاً أزعر عرفَ المستور قبل الحلم، وكانت امرأة في أوّل أيامٍ أنوثتها الطاغية.
(معلقات)
وظيفتك هنا، تمهّل واقرأْ هذا المنشور: «مطلوب عامل كازينو.. أميناً وقويّاً، الأفضليّة لمن (عنده) شهادات في رياضات الدفاع عن النفس: جود/كارتيه وغيرها».
«مطلوب معلّم تاريخ خصوصي وليس للمدارس ومناهجها، معلّم يعلّم التاريخ من وجهات نظر عدّة، صوته شكٌّ، وأسئلته آفاق وحكايات أخرى».
جدار خصوصي: «يمنع الوقوف عليه أو تعليق المنشورات، وذلك تحت طائل المسؤولية». جدار آخر: «يوجد كلب مفترس داخل حوش البيت». وآخر: «احذر المكان مراقب بالكاميرات». «ممنوع الدين وكلمة بعدين».
معلقات مواليد، أعراس، نعوات، دعوات، مبيعات، وظائف، مرشحين ومرشحات دون إنفلونزا.. وأخرى معلّقات بين الطرافة والغرابة: أدعية للطرقات، أدعية لدخول السوبرماركت، للمطاعم، وأخرى داخل المصاعد، تحت الجسور، على أعمدة الإشارة، في الأحلام، في الكوابيس، في كلّ مكان، إعلانات دُعاة وسحرة وفكّاكي طلاسم وأحجيّة وصانعي حجابات وأطباء مزوّرين، أحرف عشّاق منثورة، شخبطات مشاغبين، أسماء علم مذكرة أو مؤنثة، أسماء دون هويّة، شتائم ضدّ أنديّة أو شعارات لنصرتهم، شعارات ممنوعة، أبيات شعر مكسورة الوزن، كتابات مليئة بأخطاء نحوية ولغويّة؛ «المحكي أكثر صدقاً والفصيح متفلسف ودخيل على هذه الألسن: قال صوت مجهول (دخل على القصّة عنوة، ليس الكاتب ولا شخوصه الداخليّة).
(قارئ)
كان يسمّي الوزن (دورة) والبحر بأسماء القصائد التي تعرّف على دورتها أوّلاً.
فالطويل مسمّاه عنده (قفا) إشارة إلى معلّقة امرئ القيس، يقول: (هذا على دورة قفا) والقصير يسمّيه الشقيّ: (هذا على دورة الشقي) إشارة إلى داليّة أبي النوّاس: (عاج الشقي على رسم يسائله).
أمّا في النثر... فما كان يطالبني بتمهّلٍ، بل العجلة؛ ولكنّه، كان يقطع صمته بعد طول إنصاتٍ، ويصرخ: «هل لاحظتَ ما قرأت؟» ثمّ يطوف جدلٌ، إمّا يوسّع الفكرة ويناقش تصوّرات أكون قد التقطها من عبارة أو مقطع ما، أو يُعارض الفكرة في سياقها ويضعها في سياقات أخرى.
(غرفة المعلمين)
يكتشفَ نقطة ضعف في خشب الطابق الأول، في ممرّ ضيّق ومهملٍ مجاور لمخزن كتب، يتّفق مع رفاقه في الثانويّة أن ينزعوا الخشب للهبوط إلى غرفة المعلمين في الطابق الأرضي.
أخذوا معهم كميات كبيرة من دفاتر أعمال السنة وأوراق امتحانات مُصحّحة، أخذوا كلّ شيء يطمس علاماتهم وعلامات طلاب المدرسة. كانت جريمة غريبة، حظيت بتأييد المشاغبين والكسلانين أصحاب العلامات المتدنّية، وعارضها الحريصون على علاماتهم كأنها كنزٌ مكنونٌ.
(معلقات)
غابة من الإعلانات المجانيّة وفوضى بصريّة كتابيّة سببها (جنون الكتابة). هل يمكن أن تعتبر هذه الكتابات عبارة عن نص كتابي شعبي يعبّر عن ثقافة هذه المدينة أو تلك؟ الجدران وسيلة إعلان أسرع من الصحف. تحمل مواقع التواصل الاجتماعي شيئاً من فكرة الكتابة على الجدران والأبواب. شتّان بين عدد المستخدمين والتصريح بالأسماء. دعك من العدد، وفكّرْ في المقارنة، لعلّك تدرك جيّداً أن ثقافة الجدران والعبارات القصيرة أكثر انتشاراً وأبقى رسوخاً في مجتمعات تكره القراءة والكتابة رغم ادّعاءات ممارستها.
• أنا كرهتُ الكتابة..
• وأنا كرهتُ القراءة.
(متن الهواش/2 بروايته)
كدتُ أظنّك تكتبُ وتخفي في الجوارير ما كنتَ تخفيه أيّام مراهقتنا الأولى- الخوف هذا القرين الذين يذوي ويضوي، لكنه لا يزول، هل تذكر إعلانات الحرب ضدّ الخوف؟ كانوا يفتّشون عن مجلّة إباحيّة ولم يخطر ببالهم أنّ المجلة خالية من الصور وتحتشد بالقصص المختلقة أو المسموعة، كأنّنا كنّا ننقل من كتب الفقهاء القدماء ولم نكن حينها قد اطّلعنا على أيّ منها (قبل مواسم اطلاعنا على الكتب الإباحيّة العربيّة: عودة الشيخ إلى صباه وكتب السيوطي وغيرها...)، رغم كذبتك على أصحابك أنّ بحوذتك مخطوطاً مصوّراً لمخطوطة كتاب يُدعى: (جوامع اللذة) كنتَ قد اطّلعت على عنوانه وبعض صفحاته خلسة في مكتبة خاصة.
حينما سألتك: هل ما نكتبه يعدّو حراماً؟ لا أعلم هل كان استفساري عن تقوى أم مجرّد تساؤل أخرجته المراهقة الفكريّة والتردّد بين الدين والدنيا - بين المثالية والمادية دون الوعي بكلاهما، بين قيامة الليل صلاة وبين السهر مع الرفاق؛ هكذا جدل داخل عقلية فتى في الثانويّة يجعلك تفهم خوف حرّاس الفضيلة من المدرسة والمواد العلميّة، إذ تفتح باباً يؤدّي بالأطفال إلى المادّة دون الخيال الميتافيزيقي، إن وجد من لا يردع أسئلتهم ويغلق الباب. أفتيتَ حضرتك بجرأتك التي جُبلت عليها أو وقاحتك: (هذه صنعة فقهاء، ألم تسمع بكتب الأولين؟ كنتُ أضحك من كلامك، وكنت تمثّل الجدّيّة)؛ أحدُ الفتيان قال ذات مرّة: (أحسده على جرأته في الحكي الممنوع - أحياناً أخجل من استماعي لقصصه فكيف بقدرة حكيها). لم تكن جرأة، بل كانت من ضرورات الحرب ضدّ الخوف. يغلبك في معركة هنا وتغلبه في معركة هناك. الغرور أن تتوقّع هزيمة الخوف إلى الأبد، في كلّ مرحلة يغيّر الخوف من ثيابه ويأتي من أبواب وشبابيك ومنافذ مختلفة وعليك أن تستعدّ لحرب أخرى.
أخرج المفتّش من جارورك دفتر (أبو أربعين) صفحة وعلبة دخان وينستون وولّعة ديبون ذهب كنتَ تمسكها كأنّك تقلّد ألان ديلون، لم يعر الدفتر المطلوب انتباها فقد أعمته الولاعة؛ يفتّشون عن شيء له تصوّر محدّد في أذهانهم، لم يكن ما نخفيه يُطابق المشتبه به (على ما أقدره الآن، بع د ما يزيد عن ثلاثين سنة من الواقعة). أخرجوا من جوارير بنوك المقاعد كميّات كبيرة من الدخان، (كانوا يطلقون على الطاولة ذات المقاعد الخشبية مسمّى بنك/ بنوك: هل ما زالت التسمية؟ أو هل ما زال البنك الخشبي موجوداً؟ كان يتّسع لشخصين أو ثلاثة) وجدوا أيضاً أكياس شمّة يمانيّة وسودانيّة، وحقيقة لا أعرف الفرق بينهما سوى أنّي سمعت بهذين المسمّين، علب بيبسي فارغة بداخلها صمغ، بعض الفتيان يحترفون إدماناً غريباً: يدمنون شمّ الصمغ، شمّ البنزين، يشربون كلونيا خمس خمسات، وممنوعات أخرى بين مخدّرات وصور ممثلات، (لماذا وقع هؤلاء الفتيان في الإدمان؟ ما الذي ينقصهم؟ ما الذي يجعل الحرب ضدّ المخدّرات لا تلتفت لأبحاثٍ إضافيّة لمعرفة: لماذا يقع هؤلاء الذين لم يختبروا الحياة في جحيم التجربة؟). أخرج المفتش ومعاونوه الكثير من الممنوعات والمحظورات، لكنّهم لم يعثروا على المجلّة المشتبه بها/المطلوبة.
أذكر أوّل قصّة نشرناها على حائطٍ خلف المدرسة/ عند بسطات التشاديّات بائعات اللوز البشري/البجلي (تأمّل هذا المسمّى) يلفظونه: «بجلي» وكنتَ تُصرّ على أن مسمّاه: «بشري» لأنّ لونه وسائله كما الدم، وبائعات اللوز الهندي، والغورو: حينما سألنا عن الغورو وقد تشابه علينا مع اللوز البشري، عرفنا أنّه مقوّي كالقات.. لم نكن نعرف ما القات أيضاً، والذي علّمنا البدايات كانوا رفاقاً من عمرنا، ليس شرطا أنهم أكبر قليلاً، بل ربما كانو أصغر قليلاً، كانوا أبرياءً ويحترفون الحزن في ضياع مجهول الأسباب، وباعة من اليمن يحملون (برّادتهم) الجوّالة وينادون الصبيان على آيس كريم النجاح - (كم كان يضحكنا أنّنا أكلنا كثيراً من آيس كريم النجاح لكن لم ينجح كثيراً من الآكلين)؛ قصّة طلاب سرقوا دفاتر العلامات (دعني أضيف فعل أخذوا بالاشتراك مع فعل سرقوا أو بديلاً عنه، فالحكم بإدراج فعلتهم تحت جنحة السرقة ليس من اختصاصنا نحن المتّهمين بالفعل. يا رجل نحن لسنا متّهمين فقط، نحن فعلاً سرقنا الدفاتر?) (حذفت القصّة القديمة وتفاصيل الهبوط إلى غرفة المعلّمين هبوطاً من سقف الغرفة الخشبي رغم الإشارة التي أوردها الراوي في متنه، وتمّ الحذف لسببين: تفاصيل يحظر نشرها في صحيفة، والإطالة في هذا المنشور القصصي المضطرب).
* *
فرحتُ بوصول إيميل منك يحمل عنوان: (مخطوط قصّة جديدة: «القصاصات الباقية» أتمنى أن تقرأها كما تفعل - في معظم الأوقات - بأسلوبك الفجّ، المحبّب إلى قلبي). كلّ هذا كتبتُه حضرتك في عنوان الإيميل فكيف إذاً بالمكتوب داخله والمرفق معه!
لم أتعجّل فتح ملف word، قمتُ حينها أعدّ قهوة مع رشّة قليلة من نقاط سريّة، وبينما أقلّبها على نار خفيفة، قارنت عنوان مخطوطك بالأكلة الإسبانيّة (البايللا) والتي تعود إلى جذر كلمة أندلسيّة: (الباقية) وفق ادّعاءات عدّة: وهي الأكلة المؤلّفة من جمع المتبقّي من أكلات البارحة، ولكن أليست الكتابة نفسها مؤلّفة من قصصٍ باقية في طبيعةٍ غالبة عليها، بقايا ما استطعت الذاكرة على جمعه أو تزويره في حكاية محكيّة أو سرديّة مكتوبة.