د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ظاهرة الشروح الأدبية ظاهرة عربية قديمة، نشأت منذ القرون الأولى من تاريخ الإسلام. وربما كان تفسير القرآن الكريم هو السابق في نشأة هذه الظاهرة حيث احتاج الناس إلى فهم معانيه، والوقوف عند دقائقها، ثم انتقلت العدوى إلى غيره من النصوص، فكان الناس يملؤون مجالسهم بالحديث عن الشعر، وتناقل أخبار الشعراء، وأحاديثهم. وربما أضافوا إلى ذلك بعض الآراء حول المعاني، واختلفوا فيها.
وحين أصبح الشعر علما له علماؤه المتخصصون فيه، اتسعت دائرة الحديث عنه، وعن معانيه، ومراد أصحابه، وأسباب قوله، وما يتضمنه من تاريخ، ومعارف، وأصبح «الشرح» يحمل هذه العناصر المختلفة جميعا، فإذ قرأت في شرح المعلقات، أو شرح ديوان الحطيئة لابن السكيت وجدته يتضمن كل هذه العلوم، وربما تفاجأ أن حظ «المعنى» أو ما يسمى بالشرح الإجمالي من هذه المعارف قليل، فقد تقرأ في الحديث عن الأبيات المتتابعة لا تجد فيه بيانا للمعنى، إذ يكتفي الشارح بالحديث عن الألفاظ اللغوية، ومعناها والاستشهاد عليها من السابقين، و بتقصي الروايات المختلفة التي جاءت عليها الأبيات، وربما أكمل ذلك بذكر من سبقه إلى المعاني المفردة في البيت المشروح، أو بالحديث عن قصة متصلة بالبيت أو مناسبته دون أن يقف على معناه، وهذا ما يجعل على وجه الحقيقة أن البحث عن المعنى الدقيق والمحدد في بعض الشروح ليس أمرا مهما. وهذا يبعث على التساؤل عن مفهوم الشرح عند الأقدمين، إذا كان خلوا من تحديد المعنى، أو يمكن القول إذا كان فيه كل شيء إلا الشرح الذي يعني بتحديد مراد الشاعر، وبيان مضمون الأبيات؟
قد يجاب على هذا السؤال بأن القدماء كانوا يعنون بما يرونه عويصا، بحاجة إلى بيان من نحو بعض الألفاظ، كما يعنون بضبط المعنى، وإيضاح صحة البيت بذكر الروايات الأخرى، إضافة إلى ما يضيء معنى البيت من أخبار، أو وقائع، أو يتصل بما فيه من أعلام.
إلا أن هذا الأمر لم يغب عن القدماء، فقد أثاروا هذه القضية، ولاحظوا أن بعض الشراح يطيلون بتتبع روايات الأبيات، ما ند منها، وما غمض، ويعنون ببيان الغريب، وشرحه وإيراد الشواهد الكثيرة عليه، فيظلون عن الهدف الأصلي كما في رأي الشنتمري، والتبريزي، وهو ما دعا بعض الشراح اللاحقين إلى محاولة التخفف من الروايات، والتفصيل بالغريب، وذكر الشواهد عليها، والسعي إلى الاهتمام ببيان المعنى، والحرص على صحته، كما لدى الشنتمري، والتبريزي، والواحدي.
إلا أن هؤلاء الشراح لم يلتزموا على وجه الحقيقة بما لاموا عليه من سبقهم إلا فيما يتصل بالإطالة، فقد غلب على ما كتبوه الإيجاز في القضايا السالفة مقارنة بما كتبه من سبقهم، فشرح الغريب، وذكر الروايات إن وجدت يحضر في تلك الشروح، بالإضافة إلى ما سماه بعضهم ببيان سرقات الشاعر، ويقصدون به ما تأثر به ممن سبقه من الشعراء، واستفاده منهم على طريقة القدماء في تسميته «سرقة».
وقد يخطر في الذهن أن هذا التحول الذي أصاب الشروح من أبي عبيدة، وابن السكيت، وثعلب، إلى الشنتمري والواحدي، هو نوع من التطور في مفهوم الشرح، وطريقة تكوينه؛ ففي الوقت الذي كان الأوائل من الشراح يعنون بعدد من القضايا سوى المعنى، كان اللاحقون يرون أن الإطناب بتلك القضايا لا معنى له، وهو يخرج بالشرح عن معناه، ووظيفته الأصلية المتمثلة ببيان المعنى، والغوص إلى أعماقه مما يمثل القيمة الكبرى في الشعر كما يرون.
إلا أننا نواجه بعض الشراح المتأخرين عن أولئك ممن كان في القرن الخامس الهجري كالمعري في «اللامع العزيزي» يعنى بالغريب، وتقصيه، ويقف عند شواهده بل ربما تجاوز ذلك إلى الوقوف عند لغات العرب في نطق الكلمة الواحدة أو ضبطها بالشكل، وربما تناول الوجوه الإعرابية المختلفة للأبيات، وهو ما لم يكن موجودا من قبل، مما جعله يتابع ذلك بوجوه المعنى التي تحمل عليها الأبيات، دون أن يلتزم بإيضاح المعنى الإجمالي لكل بيت، بل ربما تتابعت الأبيات دون أن يتناول معناها كاملا مكتفياً بشرح الغريب، والاستشهاد عليه، وذكر ما يراه مستحقا للذكر مما يتصل بالبيت من معلومات.
ومن قبله كذلك يفعل أبو الفتح ابن جني، وهو ما عابه عليه كثير من الشراح اللاحقين، وعدوه أمارة على ضعف أداته الأدبية، وغلبة الصنعة النحوية الصرفية عليه، جعله يفزع إليها، ويطيل القول فيها ويشققه. الأمر الذي يعني أن الاختلاف في الشروح، وموقف الشراح من عناصره لم يكن تطوراً بقدر ما كان اختلافاً في الرؤية نحوه، ونحو مفهومه.