من المعروف أن التعليم المدرسي النظامي يقوم على إكساب الطلاب وتعليمهم مختلف المعارف العامة والعلوم المختلفة من خلال استخدام مختلف الكتب الدراسية. وتكون المدرسة أو المؤسسة التعليمية عادة داخل مجتمع ما، خاضعة لثقافة هذا المجتمع وعاداته وتقاليده. والتعليم يهدف إلـى تربية وإعداد الإنسان الذي يعيش فـي هذا المجتمع، لذا فإن تطبيق التعليم فـي المدرسة، من المفترض أن يتحدد ويقنن بشكل قوي بفعل الثـقافة التـقليدية لهذا المجتمع، ليس فقط فـي الجانب النظامـي للمدرسة، بل فـي العلاقة ما بين المدرسة وبين المجتمع الخارجـي للمدرسة، سواء وعـى القائمون علـى ذلك وخططوا له أو لم يعوا ذلك، حيث يكون ذلك بمثابة منهج دراسـي كامن وضمنـي وبعيد عن الخطط والمناهج الدراسية النظامية المعلنة.
وإذا أخذنا اليابان مثالًا لهذا، نجد أن المنهجية الدراسية الخفية غير المعلنة فـي العملية التعليمية فـي اليابان، تتمثّل في الثـقافة اليابانية التـقليدية نفسها، بخاصة فـي مبدأ الجماعية الذي يُعتبر بحق ركيزة العملية التربوية اليابانية التـي تتميز بها اليابان. فإذا نظرنا إلـى التعليم بالمدرسة اليابانية نجد أن أحد أهم سماته، كثرة الأنشطة التعليمية اللا صفية التي تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من العملية التعليمية التي يتحقق من خلالها مبدأ الجماعية وتفعيل روح الجماعة. وربما أهم ما يميز هذه الأنشطة، التدرب علـى أسلوب السلوك الجماعـي الذي يبدأ من مرحلة رياض الأطفال التـي تقوم بإرشاد النشء علـى التصرف بجماعية. ولا يتم ذلك من خلال ترديد وحفظ أقوال ومبادىء مكتوبة فقط، بل بشكل عملـي يُمارس من خلال برامج المدرسة وجداولها الدراسية اليومية، حيث يجب علـى الصغار أن يقوموا تحت إشراف المعلم أو المعلمة بنوع واحد فقط من النشاط معًا فـي وقت واحد من خلال مجموعات، أو بعبارة أخرى لا يُسمح بعمل نشاط مختلف أو حر فـي الصف لأحد ما غير الذي يقوم به الآخرون، حيث يحثون الصغار أو التلاميذ علـى أن يلعبوا معًا معتبرين أن اتجاه أحد الصغار بالانفراد باللعب سلوك غير صحـي وغير اجتماعـي. ولتأكيد هذا السلوك الجماعي، يتم توحيد الزي والحذاء المدرسـي الذي يُلبس داخل مبنـى المدرسة فقط. وفـي الغالب يتوجه تلاميذ المدارس الابتدائية والمتوسطة من بيوتهم إلـى المدرسة ضمن مجموعات منتظمة لها رئيس لكل واحد منها. وتسلك هذه المجموعات طريقًا آمنًا يتم اختياره من قبَل الشرطة ومجلس التعليم بالمنطقة. ويقوم التلاميذ باصطحاب من فـي طريقهم من زملائهم إلـى المدرسة بجدول منظم مسبقًا، وبإشراف بعض الأشخاص المتطوعين. وفي وقت الغداء، يتناول الجميع معًا تلاميذ وأساتذة طعام الغداء في المدرسة، حيث يتم طهـي الطعام فـي المدرسة من قبَل أستاذة أو أستاذ تغذية وعدد من الطهاة. وعند تناول الطعام، يقوم التلاميذ بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات، إحداها تقوم بتهيئة القاعة الدراسية لتناول الطعام، وثانية تقوم بإحضار الطعام من المطبخ، وثالثة تقوم بتوزيع هذا الطعام على التلاميذ بعد ارتداء قبعات وأقنعة وملابس خاصة لذلك، ورابعة تقوم بالتنظيف، وهكذا، ويتناول الجميع نفس الطعام بما فيهم مدرس الفصل. وتستمر عادة تناول الطعام حتـى فـي المرحلة الجامعية ولكن ليس بشكلها الذي يحث فـي المدرسة، ولكن بتناول الطلاب والأساتذة الطعام معًا فـي مطعم الجامعة. كما يتم تعليم التلاميذ كيفية المحافظة علـى البيئة والمال العام من خلال العمل الجماعي، بدءًا بالبيئة المدرسية المحيطة بهم، مثل المحافظة على المباني الدراسية والأدوات التعليمية والأثاث المدرسي وما شابه ذلك، حيث يتم تعويد التلاميذ عند نهاية اليوم الدراسي على كنس وتنظيف القاعات الدراسية، وكنس ومسح الممرات فـي المدرسة. بل والأكثر من ذلك، تنظيف دورات المياه وذلك بدون الشعور بالضِعة سواء من التلاميذ أو المعلمين. وهكذا يأخذ التلاميذ أو الطلاب والمعلمون على عاتقهم تنظيف المدرسة وتجميل مظهرها الداخلي والخارجي، ويمتد هذا النشاط إلى البيئة المحيطة بالمدرسة وذلك بتعاون الجميع في أوقات منتظمة ومحددة، حيث تقوم بعض المدارس مثلاً فـي الريف بإرسال طلابها لمساعدة الفلاحين فـي الزراعة وحصاد المحصول. وكثيرًا ما ينضم المعلمون إلى الطلاب في أوقات معينة مثل العطلة الصيفية؛ لإجراء نظافة عامة سواء للمدرسة أو للأماكن العامة مثل الحدائق والشواطئ. ويظهر السلوك والمشاركة الجماعية كذلك فـي قاعة الدرس، حيث يقوم المدرس بتكوين مجموعات دراسية عندما يطلب من التلاميذ أو الطلاب الإجابة عن بعض الأسئلة أو حل مسألة مثلاً في الرياضيات، أو إنجاز بعض الأعمال أو الأنشطة الصفية. وبعد المشاورات الجماعية بينهم، يعلن أحد أفراد هذه المجموعة الانتهاء من هذه المهمة، على أن يعاد تشكيل هذه المجموعات من فترة لأخرى أو حسب الضرورة من وقت لآخر؛ حتى لا تتكون أحزاب أو تكتلات داخل القاعة الدراسية. هذا النظام لا يعوِّد التلاميذ على الروح الجماعية فحسب، بل كذلك علـى القيادة التي تتجلى فـي تعيين شخصية مراقب الفصل أو رائده الذي يقوم في وقت غياب المدرس بتهيئة الفصل وتنظيمه وحل مشكلاته بما فيها مشاكل التلاميذ بين بعضهم البعض. وعند الانتهاء من نشاط ما أحيانًا، يقوم التلاميذ إذا استدعى الأمر بعقد جلسة جماعية فيما يُعرف بـ هانْسيّ كاي - Hanseikai (جلسة جماعية للتقييم ومراجعة الذات)، حيث يجتمعون ويسألون أنفسهم فيما إذا كانوا قد أتموا عملهم اليوم على أكمل وجه، أم أن هناك قصوراً فيما قاموا به من أعمال، وما هي المشاكل التي واجهتهم؟.. فيقومون بتقييم الإيجابيات والسلبيات وأوجه القصور بأنفسهم، ومن ثم يقومون بتطوير وتحسين عملهم بشكل جماعـي. لا شك في أن المشاركة فـي العمالجماعـي يولد الإحساس بالآخر ويبنـي روح التعاون، فالفرد بالمفهوم الياباني ينبغي أن يذوب فـى المجموعة ويستمد قوته من خلال العمل الجماعي والاحترام المتبادل بين أفراد المجموعة.. وهذه الطريقة في التعليم تستهدف تنمية روح الجماعة والعمل الجماعي، واحترام العمل، وتحمُّل المسؤولية والالتزام والقيادة، وكذلك الحوار وتقبل آراء الآخرين وتنمية القدرة على مواجهة المشكلات والمواقف، والابتعاد عن الأفكار السلبية الهدّامة، كما تشكّل أيضًا قوة نفسية رادعة لكبح جماح السلوكيات الاجتماعية غير اللائقة تجاه المجتمع والغير، ومن هنا يتحقق دور المدرسة باعتبارها حياة حقيقية مصغرة للطالب، ويؤكد مقولة الفيلسوف التربوي جون ديوي بأن المدرسة هي الحياة.. وللحديث بقية إن شاء الله.
أ.د. شهاب فارس - كلية اللغات والترجمة جامعة الملك سعود