إن استقراء أعمال الكاتب في كليتها وبيان ملامح «مشاهدها الداخلية» هو الهدف الدقيق للبنيويين والظاهراتيين الحاليين. وتدرك كل هذه المناهج، كمبدأ أساسي، أن لكل كاتب بنيته المميزة من الأفكار والأحاسيس، ومن القدرات والأدوات.(1)
لقد جعلت عبقرية بارت، بعنصرها الطريف المقدس، وتجعل القراءة سحرًا لمن يتقاسم منا من خلفيته الثقافية ما يكفي على الأقل للحصول على لذة جمالية وتجلٍ من «دلالاته» المأثورة. إنها لعبة تحرٍ يتحقق فيها الإشباع من تفسير اللغز على نحو صحيح، لشرلوك هولمز أساسًا، ولكن ليس لعزيزي واطسون. لقد كان بارت في تحليله البنيوي لرواية بلزاك القصيرة ساراسين هو شرلوك هولمز الذي يميز باستمرار، مستشفًا من تجربته الثقافية الثرية جدًا، أثر علامة ثقافية على أخرى.
إن القارئ هو واطسون الذي قد لا تفيد «الدلالة» شيئًا سوى نفسها بالنسبة إليه، إن لم يكن ثمة شيء في نطاق تجربته الثقافية تحال عليه. إنها قطعة قماش لا تتناسب مع أي لون في منظوره، نوتة موسيقية لا يمكن نظمها في أذنه. ولذا فحتى لو قيل له: إن قصة بلزاك ساعة الإليزيه بوربون تطرح فعليًا إشارة مجازية إلى شارع فوبور سانت أونوريه، ومنه إلى باريس في شارع بوربون المجدد، ومن ثم إلى التجديد «كمكان أسطوري للثروات المفاجئة التي يشك في أصولها».(2) ويظل هنالك مساحة يفترض بالقارئ فيها أن يقرأ «ما لم يُكتب». تعمل الدلالة في نظام مغلق، فهي تفترض مسبقًا سياقًا ثقافيًا مشتركًا بين الكاتب والقارئ أبعد من مجرد معرفة القراءة والكتابة. ولا يمكن للقارئ دون ذلك المصدر أن «يقرأ» النص بمقدرة بارت.
يقول بورخيس «إن الكلمات رموز تفترض ذاكرة مشتركة».(3) ودون هذه الذاكرة المشتركة سيغدو فوبور سانت أونوريه مجرد اسم حي، ولن يكون له صلات بالأناقة أو صلات اجتماعية أو ثقافية، إما كصورة مستحضرة من زيارة باريس أو كرمز موصوف في كتب أخرى، أو مرسوم في لوحات، لن يستدعي شارع بوربون المجدد أي إشارة على أنه «مكان أسطوري للثروات المفاجئة التي يشك في أصولها» لأن القارئ لا يعلم مكانة شارع بوربون المجدد في التاريخ الفرنسي السياسي والاجتماعي. وليست التبادلات متعددة الجوانب في الفنون والآداب والسياسة والتاريخ والفلسفة التي يعتبرها بارت بدهية، مسار وجود القارئ.
حين يقول المرء إنه يكتب لـ«أي أحد يقرأني» فلا بد أن يكون مدركًا أن «أي أحد» تستثني عددًا كبيرًا من القراء الذين لا يستطيعون قراءتك أو قراءتي بسبب الاهتمامات التي لا يشاركونا إياها في مجتمعات غير متكافئة إجمالًا، كما أن المكاتبات البودليرية حول النظرية الأدبية في وقت سابق لا تناسبهم أيضًا، لأن «مكاتبات» تتضمن إدراك أمر ما بالارتباط مع آخر الذي يمكن حدوثه فقط ضمن نظام المصدر الثقافي نفسه. هذه هي الحالة حتى بالنسبة لنا، مثلي، نحن الذين نؤمن أن الكتب لم تخلق من كتب أخرى، بل من الحياة.
وسواء أأحببنا ذلك أم لا، يمكن أن «يقرأنا» قراء يتقاسمون مصطلحات المرجعية التي تشكلت في داخلنا بفعل تعليمنا؛ ليس الأكاديمي فحسب بل في التصور الأوسع للتجربة الحياتية: مفاهيمنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقيمنا المشتقة منها، وخلفياتنا الثقافية. ويظل حقيقيًا حتى بالنسبة لأولئك الذين خلقوا مسافة كبيرة بين أنفسهم وبين قيم معينة من الطفولة: أولئك الذين غيروا بلدانهم و قناعاتهم ونمط حياتهم ولغاتهم. إن المواطنة العالمية هي تبادل ثقافي آخر فحسب، بمجموع معطياتها التي قد تنبثق من عدة ثقافات وتصبح في مجموعها شيئًا يختلف عن كل واحد منها.
... ... ...
(1) هنري ليفين، «من الوهم إلى الخيال: سيكولوجيا الكاتب»، فصلية ميتشغان ريفيو، المجلد 12. رقم 3 (صيف 1974)، ص190.
(2) رولان بارت، س/ز، ص21
(3) هنري ليفين، «من الوهم إلى الخيال: سيكولوجيا الكاتب»، فصلية ميتشغان ريفيو، المجلد 12. رقم 3 (صيف 1974)، ص190.
- ترجمة/ بثينة الإبراهيم