ياسر صالح البهيجان
أفرزت تحولات المجتمعات البشريّة الحديثة في مرحلة ما بعد الحداثة عدداً من المفاهيم الاقتصاديّة المتأسسة على مبادئ تروم مضاعفة مستويات الاستهلاك لتضع بذلك أطراً إغرائيّة وإغوائيّة ذات أبعاد وهميّة تجرّ الفرد الحديث إلى الجنوح نحو استهلاك موارده وطاقاته من أجل أن يتسم بالتحضّر، وأن يطلق عليه مصطلح إنسان حضاري.
المليارات تُنفق سنوياً على الحملات الدعائيّة التي تتجه إلى نقطة ضعف المتلقّي في أي مجتمع من المجتمعات، تتبدّى بوصفها خلاصًا لمعاناته وسببًا في تجاوزه لعقدة نقصه في ظل رغبة الكائن البشريّ بلوغ مستويات الكمال، لكنه في نهاية المطاف لا يحقق شيئاً من هذا الذي يسمى كمالاً، ويستمر في الاستهلاك وسط دائرة مفرغة تُظهر الجمال وتخفي الاستغلال والنهب المالي الذي تدفع ثمنه الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل لتتسع الفجوة فيما بينهما وبين الأثرياء الذين يصطنعون الثقافة الاستهلاكيّة ويضاعفون من أموالهم عبر بثّ الإعلانات المراوغة.
الثقافة الاستهلاكيّة حوّلت مفهوم الكمال البشري من القيمة الأخلاقيّة إلى القيمة التسليعيّة، الإنسان الكامل في نظرها ليس المتسامح والصادق والكريم بل من لديه سكن ضخم وسيارة فارهة وأموال مكنزة في الحسابات البنكيّة، نحن إزاء تحوّل هائل في مفهوم الإنسانيّة برمتها يقوّض الإرث الحضاري المتأسس على القيم السامية ويزدري السمات النبيلة التي أُفرغت من مدلولاتها الإيجابيّة لتكتسب دلالات جديدة توصم بالسذاجة والغباء.
الحديث عن أثر الثقافة الاستهلاكية ليس حكرًا على المجتمعات العربية، ففي تاريخ الفكر الحديث، تظهر مدرسة فرانكفورت كإحدى المدارس الفكريّة الرائدة في مجال مواجهة تلك الثقافة، وكانت في بواكير مراحلها تركّز على نقد أساليب الإنتاج والاحتكار وما لبثت أن حوّلت نقطة ارتكازها نحو آليّات الاستهلاك وأنماط استغلال الثقافة لتعزيز قدرة الطبقة المخمليّة في السيطرة على عقول أفراد المجتمع، وترى بأن المجتمعات الحديثة تقع تحت وطأة وهم الحريّة عبر انسياقهم الأعمى خلف ما تنشره الإعلانات الترويجية وخطط التسويق وأفلام هوليود والتكنولوجيات الجديدة والوسائط الاجتماعية.
والتحديات في مواجهة الثقافة الاستهلاكيّة تضاعفت مع سيادة الشاشة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين والتي أنتجت عبوديّة جديدة، لكنّها عبوديّة أكثر ذكاءً من تشكلاتها السابقة لقدرتها على الاستتار والتخفّي خلف مظاهر الحضارة والتكنولوجيا والوسائط الرقميّة، إذ يظنّ معها الإنسان أنه حرّ حريّة تامة غير مقيّدة أو مشروطة، في حين يخضع دائمًا لتوجيهات خفيّة تنتجها تلك الثقافة تدفعه بقّوة نحو الاستهلاك السلبي حتى بات كل منتج يمثّل احتياجًا رئيسًا لكل فرد، وأصبح الإنسان عاجزًا عن تحديد أولويّاته الشرائيّة في ظل موجات الإغراء الاستهلاكي التي لا تكف عن ابتزازه ما دام متصلاً بالعالم الخارجي عبر هاتفه المحمول أو جهازه اللوحي.
الوعي بآليّات اشتغال تلك الثقافة جدير بكشف أنساقها المضمرة وأبعادها الاستغلاليّة، ومجابهة الأنساق الاستهلاكيّة لا تأتي من أجل تحسين جودة إنفاق الفرد في زمن التحديات الاقتصاديّة فحسب، بل لإعادة قيمة الإنسان وكرامته لتستعيد الإنسانيّة سماتها الأخلاقيّة النبيلة التي في ضوئها يمكننا أن نسمي الإنسان إنساناً.