عندما يتعرض العقل البشري الى حالة مضطربة لا تنسجم مع فطرة الانسان وهويته القومية ومبادئه الدينية فإن جهود الإصلاح والمناصحة قد تنجح في إصلاح هذه الحالة من خلال قيام المصلحين باتباع أسلوب النصح والتوجيه وبيان المخاطر المحتملة شريطة ان يكون التدخل مبكرا وقبل أن تصل الحالة لمرحلة متقدمة تكون خارج نطاق إمكانية الاستجابة وتقبل عملية التوجيه والوعظ والإرشاد. أما إذا سار تفكير الانسان به وقطع مسافة تتجاوز الحد المألوف وحدود الفطرة والنظام العام، وتبتعد كثيرا عن مركز الوسط فإن قرار التدخل الخارجي بإعادته الى مجال قدرة العقل على الاستجابة سيكون قرارا متأخرا وغير ذي جدوى. ذلك أنه حينما يتجاوز الفكر مجال المركز فكأنما يخرج من مجال الجاذبية الأرضية ويهيم في فضاء تتجاذبه فيه العوالم الأخرى فيعتقد بل ويؤمن بأنه الفضاء الصحيح لحياته ومماته. ومن هنا تكمن الصعوبة في العودة الذاتية الى طبيعة الانسان ومجاله الخيالي، وفي الإعادة الجبرية باستخدام طريقة التوجيه عن بعد.
وفي هذه الحالة العصية، عندما لا يستجيب العقل للنداء والتوجيه الصحيح فإنه لا بد حينئذ من البحث عن وسيلة علاجية اخرى تقودنا الى معرفة الأسرار وراء رفض العقل لمنطق العقل.
من البديهي والطبيعي ألا يحيد أو يشذ الفرد عن مسار الفكر السائد في بيئته ومجتمعه. وصحيح ان لكل انسان فكره وقناعاته الذاتية الخاصة به، إلا ان لهذه الأفكار الشخصية والقناعات الذاتية حدودا وبالتالي فهي ليست مطلقة وانما مقيدة بضوابط تحكم علاقة الفرد بالمجتمع وتضبط مستوى تصرفاته وتفاعله مع من حوله.
وبدون الالتزام بهذه القيم والضوابط والحدود فسوف يحدث ما يمكن أن يسمى بالانفلات الذهني في العقل البشري الذي خلقه الله في جسد الانسان ليكون بمثابة جهاز التحكم والسيطرة في الجسم البشري. وعندما يغذى هذا العقل بالمعلومات فإنه - ان كان سليما - سيعمل على تدقيق وفحص هذه البيانات او الأوامر والتعليمات ليرى ان كانت تتضمن ما هو خير اوكانت تشكل خطرا على نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه، وإن لم يكن هذا العقل سليما فمن الطبيعي ان يتشرب بالأفكار والمعلومات المضللة ويعمل بها دونما تحليل لمحتواها ودونما معرفة بمن سوّاها. بمعنى إن تأكد له خيرها فسوف يقبلها ويعمل بها وإن رأى فيها شرا رفضها وابتعد عنها. وتلك هي فطرة الانسان منذ ان خلق الله آدم على الأرض. ومادامت هذه هي بديهية الفطرة الإنسانية، فلماذا تتقبل بعض عقول الناس أفكارا غير سوية تضمر الشر وتتعارض مع نظام الحياة؟ وهل من الممكن المضي قدما في البحث عن وسيلة علاجية لتصحيح مسار العقل المضطرب بعد رفضه لجهود العلماء والفقهاء والمصلحين والموجهين؟
ان وحدة المعالجة الرئيسية Central Processing Unit في الحواسيب الآلية وغيرها من الأجهزة الذكية تستجيب عادة لعمليات الإصلاح وإعادة البرمجة، وبالتالي فإن العقل البشري إن هو في حالة غير جيدة قد يكون أيضا قابلا للإصلاح والاستجابة لعملية المعالجة وبالتالي إعادته للمسار الصحيح. وهي عملية تشبه الى حد بعيد عملية إعادة البرمجة في الأجهزة الذكية
وطالما ان الآلات، كما في الأجهزة الذكية وغير الذكية تتقبل عملية الإصلاح والبرمجة بالرغم من كونها جمادات لا حياة فيها، فكيف لا يستجيب العقل المعتل لعمليات الإصلاح وهو عضو حي نابض بالحياة؟. لقد أثبتت البرمجة العصبية مثلا إمكانية نجاح عيوب النظر وتصحيحه. بمعنى ان العين تستجيب للمعالجة ويتحسن مستوى قدرتها على الرؤية بشكل أفضل وأسرع. في حين ان العقل الذي هو وعاء الفكر وبه مركز العصب البصري والأوامر، قد لا يستجيب أحيانا للدواء فيظل عصيا وعنيدا ويابسا
ربما أن كثيرا ممن أخضعوا لجلسات المناصحة لم يستجيبوا تماما لمحاولات الإصلاح والإرشاد والتغيير، بل إن بعضهم عاد لسابق عهده وبتطرف اشد من ذي قبل، بينما استفاد وتجاوب بعضهم من الآخرين واستقامت حياتهم وأدركوا فيما بعد انهم كانوا يسيرون على غير هدى، وأنهم كانوا ضحايا لفكر متطرف وغريب وخطير.
وهنا يتضح لنا التباين الشديد في معدل قبول المناصحة والارشاد من شخص الى آخر. ولذلك أرى أنه لا بد من أن نستمر في البحث والتقصي عما قد يساعدنا في الوصول الى كشف أسباب العلل المانعة لاختراق مجال العلة والاستمرار في البحث عن وسائل عملية للقضاء على هذه الأسباب والمعوقات التي تحول دون الوصول الى حيث تكون العلة ويوجد الخلل للقيام بعملية تعقب المادة المسئولة عن تعطيل عمل جزء ما في المخ قد يكون من وظائفه الاستجابة لمنطق الأمور واستشعار مركز الوسطية بين قطبين متباعدين، ومن ثم التعامل مع هذا الجزء أملا في الوصول الى ما يحقق التعافي من هذا الداء الذي يهاجم عقول من سلكوا طريقا لا يحقق لهم الحد الأدنى من التوازن بين حياتهم المادية والروحية وبين علاقاتهم في العيش مع الآخرين بسلام.
نعلم جميعا أن الله سبحانه وتعالى خلق الانسان في حالة من التوازن النفسي والتوازن العقلي والعاطفي بحيث تستقيم وتستمر حياته بهذا الاعتدال ويستطيع تبعا لذلك ان يتعايش مع بني جنسه على سطح الكرة الأرضية بسلام ووئام، الا إن التطرف بكل اشكاله، سياسيا كان أو أيديولوجيا دينيا، لن يؤدي الى إيجاد هذا التوازن المطلوب في علاقات الفرد بالمجتمع، كما لن يؤدي الى الوسطية في علاقات الدولة بالمجتمع الدولي بأسره وبالتالي الجنوح نحو العزلة.
ان الأطياف السياسية left - Right Politics التي يرمز لها في الخط السياسي بأقصى اليمين او أقصى اليسار ربما لا تمثل في واقع الأمر أغلبية في أي برلمان او حزب سياسي. فأقصى اليمين يكون الخط السياسي متصلا بالفاشية، والأيديولوجية المحافظة، ثم الليبرالية، ثم الى اليسار تقع الاشتراكية والشيوعية. وفي كلا الجانبين: اقصى اليمين وأقصى اليسار، يكون التطرف Radical هو السمة السائدة في توجهات هذا الحزب او ذاك. الا أن هناك ما يسمى باليمين الوسط واليسار الوسط في كل من الاتجاهين حيث يمثل وسط اليسار ايديولوجيات رئيسية هي التقدمية والليبرالية الاجتماعية والديموقراطية الاجتماعية، وهذا الوسط اليساري يستبعد مواقف اقصى اليسار المتمثلة في النظرية الماركسية، وهي نظرية سياسية واجتماعية تنسب الى صاحبها الفيلسوف الألماني كارل ماركس وترى ان الاقتصاد هو الآلية الأساسية لعمل المجتمع حيث تتوقف كل المجالات الأخرى كالسياسة والدين على نمط النظام الاقتصادي. بينما يرمز وسط اليمين في الخط السياسي الى السياسة اليمينية المعتدلة التي تكون أقرب الى الوسطية أكثر من غيرها من المتغيرات اليمينية.
في حين يُنظر إلى الوسطية Centerism كحل وسط بين اليمين واليسار. وهي تمثل الاعتدال في كل أمور الحياة. فهي منهج فكري وموقف أخلاقي وسلوكي كما ورد في القرآن الكريم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.» حيث تدل الآية الكريمة على أهمية الوسطية وتحقيق التوازن في الحياة من أجل ان ينعم الانسان - كما أشرت سابقا - بالسلام ويعيش في تناغم وانسجام مع كل البشر الذين يشاركونه الحياة على كوكب الأرض. فكما يكون الانسان مطالبا بأداء العبادات والشعائر الدينية فانه كذلك مطالب بالعمل والسعي في كسب الرزق.
وفي الإسلام تعدّ الوسطية ركيزة أساسية يقوم عليها المنهج الإسلامي حيث ينظر الإسلام الى الوسطية باعتبارها منهجا فكريا ودينيا نصت عليه وبرهنت الآيات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لتكون طريقا للعمل والعبادة. ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} البقرة. 143. وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ} (171) سورة النساء. وفي هذه الآية نهي عن المغالاة في الدين عموماً، والتعصب المقيت في الرأي، والتزمت المشين في الفكر.
إذن فالوسطية والاعتدال كلاهما مصطلحين لغويين يشير كل منهما في دلالته المعنوية الى ضرورة إيجاد التوازن بين العمل والعبادة كما ورد في سورة القصص، الآية 77. وربما كان من المناسب ان نضرب مثلا من الممارسات العملية في الحياة العامة لبيان أهمية تحقيق التوازن وخطورة الميل أو التطرف في المذهب او في الاتجاهات الفكري.
فعلى سبيل المثال لكم ان تتصوروا مشهدا لرجل يسير على حبل بين قمتي جبلين يرتفعان عن الأرض ارتفاعا شاهقا، وهو يسعى بكل جهد ممكن الوصول إلى قمة الجبل المقابل سالما. سنشاهد الرجل ممسكا بعصا طويلة يستخدمها لمساعدته في حفظ التوازن اثناء سيره البطيء على الحبل. فماذا لو هبت عاصفة او تساقطت عليه زخات من البرد أو مر من أمامه سرب من الطيور الجارحة، ثم مالت هذه العصا الطويلة ذات اليمين او ذات الشمال؟
هل سيحاول الصمود قليلا في وجه العاصفة، أو يتحمل سقوط حبات البرد على رأسه لأجل ان يبقى محافظا على توازنه واعتداله حتى يقطع المسافة القليلة المتبقية على النهاية، أم انه سوف يقرر الانحراف نحو اليمين او الشمال ومن ثم يفقد توازنه ويسقط؟ ان أية محاولة للانحراف لأجل تفادي خطر بسيط سيؤدي الى السقوط ثم الهلاك الحتمي.
نعلم جميعا ان الله سبحانه خلق الأرض التي نعيش عليها بتوازن هو غاية في الدقة وبقدر محكم في كل مقومات الحياة من الماء والضغط والاكسجين وغير ذلك. وقد خلق الله الأرض في مسافة متوسطة من الشمس لكي تمدّها بالدفء والطاقة. ولو جعل الله الأرض في مسافة قريبة جدا او بعيدة جدا عن الشمس لاستحالت الحياة على كوكب الأرض.كما نعلم ان الله سبحانه وتعالى أودع في جسم الانسان ما يحفظ له التوازن والاعتدال. ومن هنا نتفهم أهمية التوازن والوسطية سواء في المادة او في حياة الانسان. ونعلم أيضا ان كل عضو بجسم الانسان قد يتعرض الى حالة مرضية تتطلب البحث عن العلاج المناسب. وبالتالي فان عقل الانسان، وهو العضو الرئيسي باعتباره مركز التحكم في الجسم لن يكون ايضا بمنأى عن العلل التي قد تعيق أداءه لوظيفته وتقبله لمنطق الأمور والأدلة القاطعة. وحينئذ يصنف العقل هنا بوصوله الى مستوى من اللاتوازن مما يستدعي التدخل طبيا والخضوع للمعالجة املا في إعادته إلى حالة المنطق والتوازن والاعتدال. ومن الأمثال الدارجة التي تدل على نهج الاعتدال والوسطية قولهم: «يمسك العصا من الوسط»، وقد تعني محاولة إرضاء جميع الأطراف. ومن أقوال الحكماء في ذلك قولهم: «خير الأمور الوسط» كما يقابله في الامثال الانجليزية The middle way is the best one
إن الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، أي أمة العدل والقسط، أمة الاعتدال والقصد، وهذه الوسطية تتجلى في كل جوانب الإسلام، فالإسلام وسط في الاعتقاد والتصور، وسط في التعبد والتنسك، وسط في الأخلاق والآداب، وسط في التشريع والنظام.