د.علي القرني
عندما كنت مع زميلي الدكتور عبدالله الطويرقي في زيارة لبعض الصحف العالمية في جولة كانت تستهدف الاطلاع على الاتجاهات الحديثة في الصحافة العالمية، عندما كنا نحضر لاستصدار نموذج جديد لصحيفة الوطن آنذاك، توقفنا كثيرًا لدى صحيفة USA Today الأمريكية، وتوقفنا أكثر لدى قسم الجرافيك بهذه الصحيفة عندما استقبلتنا مديرة القسم، وهي شابة في العشرينيات متوهجة، وفيها حماس منقطع النظير، وشرحت لنا الكثير عن أهمية هذا القسم في هذه الصحيفة.
والجميع يعلم أن صحيفة USA Today الأمريكية هي الصحيفة التي صنعت مفهومًا جديدًا في الصحافة العالمية، وكنا في تلك الزيارة نطمح للالتقاء بمؤسس تلك الصحيفة ألن نيوهارث، لكنه كان قد ترك الصحيفة، ويعمل حينها في الشركة التي صنعت أفضل نموذج في الصحافة العالمية (USA Today)، وهي شركة جانيت Gannett.
ولي عودة لتذكُّر هذه الشخصية العالمية، الذي توفي قبل ثلاثة أعوام، وذلك في مقال لاحق، ولكن المهم الآن أن قسم الجرافيك بهذه الصحيفة كما كنا - وما زلنا - نشاهده على صفحات هذه الصحيفة، وكما سمعناه وشاهدناه من خلال مديرة القسم بالصحيفة، يُعد أهم الأقسام وأميزها؛ لأنه يمثل النقلة النوعية التي استحدثها الن نيوهارث، ليس فقط في صحيفته، ولكن في الصحافة الأمريكية والصحافة العالمية. والجرافيك الصحفي ليس مجرد أرقام توضع في أحد برامج الجرافيك، وتخرج على شكل جدول أو رسم بياني أو رسم كتابي (كما هو الحال مع بعض صحفنا)، لكنه أكبر من ذلك بكثير، وهذا ما نفتقده في صحافتنا العربية والسعودية.
الجرافيك حسب أصوله ومكانته الطبيعية في الصحف العالمية يمثل صناعة حدث، وليس مجرد رسم معلوماتي، وهكذا شرحت لنا مديرة قسم الجرافيك بصحيفة USA Today؛ فالدور الجرافيكي في الصحيفة يستبق الأحداث، ولا يتبعها، وعندما يتجدول حدث مستقبلي بمكان ما فإن مندوبي الجرافيك من مصور فوتوغرافي ومخطط جرافيكي ومحرر يذهبون إلى مكان الحدث لنقل المشهد، وتحويله إلى حدث جرافيكي. وحاليًا يتم تدريب شخص ليكون بمنزلة محرر جرافيكي ومصور ومتخصص فني جرافيك، بما يمكن أن أطلق عليه هنا (الجرافيكي الشامل).
وصحافتنا السعودية والخليجية هي أفضل الصحف العربية في استخدام الجرافيك على صفحاتها، سواء من إنتاجها، أو عبر شركات متخصصة أو عبر وكالات الأنباء العالمية التي تصنع أفضل أشكال الجرافيك، وتبثه لعملائها في كل أنحاء العالم، خاصة تلك الأعمال الجرافيكية التي ترتبط بأحداث طارئة، وتحتاج إلى صناعة مشهد، يوضح تداعيات حدث، أو تراتبية أحداث، أو تلخيص مواقف.
وما نشاهده اليوم في صحفنا السعودية والخليجية هو ثلاثة مستويات في الجرافيك؛ إذ بعض الصحف تقع خارج الحداثة الصحفية، ولا تعطي أي اعتبار لهذا المنهج الصحفي الحديث، وفئة من الصحافة لديها أقسام جرافيك شكلية، ووجودها تحصيل حاصل، لا تتعدى أعمالها أن تقذف بجرافيك واحد يومي بدون أي فهم حقيقي لموضوع ومغزى الجرافيك ودوره في الصحافة الحديثة. أما الفئة الثالثة فتوجد بها أعمال جرافيكية، تقترب من الاحترافية، لكنها تظل دون مستوى الجرافيك العالمي الذي نشاهده في الصحافة العالمية وعبر وكالات الأنباء العالمية والشركات المتخصصة.
وعلى الرغم من التطور في هذا الجانب، خاصة في الصحافة السعودية، إلا أنه يظل دون المستوى المأمول، ويظل ردة فعل وليس مبادرات نوعية لصناعة أحداث، وتجسيد مواقف وأحداث محلية أو عربية أو دولية. وتظل بالإجمال فكرة الجرافيك في كثير من صحافتنا هي مجرد صف كلمات داخل رموز وأسهم وأشكال. ولا يسعف قسم الجرافيك مركز معلومات متخصص، يمده بمعلومات دقيقة وعميقة عن تلك الأحداث أو الموضوعات التي تتناولها الأعمال الجرافيكية في صحفنا. كما أن أعمال الجرافيك تتم فقط من مكاتب الصحيفة، وليس لها امتدادات ميدانية على أرض الواقع، بمعنى أن نقطة الضعف الكبرى في الجرافيك المحلي أنه يدار ليس من الميدان، ولكن فقط من المكاتب الصحفية.