عبد الرحمن المعمر
تسلل إلي صباح الخميس الفارط 19 محرم 1438هـ خبر بالجوال ينعى إلى المحبين والأصدقاء وفاة الأمير الجليل عن عمر تجاوز التسعين عاماً, فترحمت على الفقيد واسترجعت ورجعت القهقرى إلى الوراء لأكثر من خمسين سنة استدعي الذكريات واعتصر الذاكرة. أتصور وأتخيل تلك الجلسات أيام الجمع والأعياد يوم كنا نتوجه إلى منزلهم القديم في ضاحية خارج الرياض وسط الأشجار والنخيل وجداول الماء السلسبيل (رعى الله تلك الأيام) كان ذلك في حياة والده الأمير العالم الجهبذ الشيخ محمد بن عياف رحم الله الجميع. كان الفقيد وإخوانه مشاري وعبدالرحمن وأبناؤهم يحيطون بوالدهم الجليل يبشون في الترحيب يحسنون المقابلة ويبالغون في التكريم والمؤانسة وجميل الحديث (أين والله تلك الأيام وآسفاه).
كانت تربط الفقيد وإخوانه بوالدي وأعمامي وعموم أسرتي مودة قديمة ومصاهرة حميمة وصداقة عميقة. كنا نلمس ذلك كل ما التقيناه أو زرناه. (يعبر عن ذلك بالكلام والنظرة والإشارة والعبارة أعلى الله منزلته في دار كرامته):
يجل الخطب في رجل جليل
وتكبر في الكبير النائبات
كان رحمه الله يكرم الضيف ويحاول ما استطاع دفع الحيف. كان في آخر حياته يتحامل على نفسه يجلس لزواره رغم ظروفه ومعاناته. ألم أقل لكم إنه يجامل ويتحامل ويظهر التجلد والتماسك حتى لا ينقطع عن لقاء الناس أو يحتجب عن الجلاس. كان رحمه الله يراعي خواطر وظروف من حوله يداري ولا يجرح الإحساس أو يحرج الناس (والبشر لا تعذر ولا ترحم). كان رحمه الله كريماً وسخياً ووفياً وحيياً مع من يقصده في داره أو مكتبه (يذكرني بالوزير الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ رحم الله الجميع). كان يطرب لقصص كرماء العرب يتتبعها في كتب الشعر والأدب. كان رحمه الله كطبع آبائه وأجداده ينزل الناس منازلهم يداري ظروف كبار السن ومن يراجعونه. كان يجامل ويتحمل. يعفو ولا ينتقم يحسن ولا يسيء وهذه والله من طبائع الصالحين والعافين عن الناس والله يحب المحسنين:
إن فقد الكبار رزء عظيم
ليس فقد الرعاع والأرزال
أتذكر قبل سنوات أنه استجاب لدعوة شقيقي مشاري وحضر إلى مزرعته ببلدة العيينة مع وفد مبارك ورهط غير مفسد يتقدمهم الأمير الكبير فهد الفيصل الفرحان آل سعود وابنه عبدالله، والشيخ عبدالله بن محمد بن سويلم المستشار بالديوان في ذلك الوقت، والشيخ سعد بن رويشد وآخرون. (كانت جلسة لا تنسى) وأحاديث لا تمحى وذكريات لا تبلى:
وما اثنيت إلا بعد علمٍ
وكم من جاهل اثنى فعاب
هذه خواطر عابرة جاءت مسرعة أوحت بها إليّ مناسبة رحيل الفقيد الكبير تغمده الله بواسع رحمته وأدخله مدخلاً كريماً أسوقها في مقام النعي والتأبين لأبنائه الكرام فهد وخالد وبندر وإخوانهم وأبناء عمومتهم وكل محب لأسرتهم. وهكذا يرحل الأخيار وتختفي نماذج الكبار خلفهم الله بخير {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
لعلك في جوار الله باقٍ
ويشفع في خطاياك الرسول