عبدالعزيز القاضي
رجل فعوله بالمجالس سواليف
ورجل سواليف المجالس فعوله
- فهد الهويملي
وقبله هذا البيت قوله:
الله يبيّض وجه بعض المواقيف
اللي بها راع الردى يغيب زوله
وربما كان بيت السياحة قيل أولا ثم صُنع له هذا البيت على سبيل التأسيس والتهيئة كما هي عادة الشعراء عندما ينزل عليهم الإلهام في صياغة معنى مدهش. وشتان هنا ما بين البيتين في الصياغة, فالتكلف ظاهر في الأول, إضافة إلى الثقل الشنيع في وزن الشطر الثاني بسبب زيادة الياء الأولى في كلمة (يغيب) على الوزن.
ثم إن التكلف في الربط بين معناه ومعنى البيت بعده أظن أنه ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
أما بيت الساحة فقد أعجب كثيرين في تويتر, ومنهم الشاعر محمد بن حسن (ولد الخال) الذي قال فيه:
سمعت لي بيت مسويه حرّيف
بيت بديت بكل مجلس أقوله
أحد فعوله بالمجالس سواليف
وأحد سواليف المجالس فعوله
فهل يستحق البيت كل هذه الإشادة؟ أما أنا فقد أُخِذتُ مثل غيري بجماله, وحرك أوتار الطرب في ذائقتي عندما قرأته لأول مرة لكني لم أجده كذلك عندما تأملته. وفيما يلي بيان لهذا التأمل:
معنى البيت حسب ما فهمته هو: الرجال صنفان: رجل لئيم خامل أفعاله القبيحة مجال للتندر والسخرية في المجالس, ورجل كريم نبيه أفعاله وأخباره الكريمة هي حديث المجالس. وقد صيغ هذا المعنى صياغة رائعة اعتمدت على المقابلة المدهشة - والصياغة الجميلة هي دائما جواز المرور الأول إلى القلوب - وقد اتكأ الشاعر في خلق المفارقة على توظيف المعاني المتضادة في مفردة (سواليف), إذ إن معناها في الشطر الأول هو: خرابيط أو سباحين ونحوها؛ أي لا قيمة لها, ومعناها في الثاني: أحاديث السمر وأخبار الرجال وأفعالهم الكريمة وبطولاتهم.
لكن هل نظم الشطرين بهذه الصورة يعطي هذا المعنى الذي أراده الشاعر بدقة؟ أظن أن الجواب هو: لا, فالذي تكون (فعوله بالمجالس سواليف) لا يُشترط فيه أن يكون خاملاً لئيماً, بل قد يكون نبيهًا كريمًا كالذي تكون أحاديث المجالس هي أفعاله وبطولاته. وكذلك الحال في الشطر الثاني, فالذي تكون (سواليف المجالس فعوله) لا يلزم أن يكون كريمًا ذا أفعال كريمة, فأكبر المجالس على الإطلاق وهي - إن صح التعبير - القنوات الإخبارية تردد يوميًا أخبار الملائكة والشياطين من البشر بل إن ترداد أخبار الأشرار فيها يفوق أخبار الأخيار. وكذلك الحال في مجالس الرجال ودواوينهم, فالذي يسيطر على الاهتمام هو الفعل (غير المألوف) وهو ليس خاصًا بالخير ولا بالشر أيضًا. إذًا لا فرق - حسب المفردات - في المعنى بين الشطرين. وإذا كان الأمر كذلك فكيف فهمنا مراد الشاعر على الرغم من عدم دقة دلالة المفردات على المعنى؟ أظن أن الجواب يكمن في (الإيحاء), فمن يقرأ البيت يتبيّن مقصد الشاعر قبل أن يُتم قراءته, و(الإيحاء) باب كبير في الإبداع, لأن فيه إشراكا لخيال القارئ في رسم الصور الجميلة في النصوص الأدبية, ويتبين أثر الإيحاء في مثل قول السياب في أنشودة المطر: (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر) فلا شبه بين عينيها وغابة النخيل ساعة السحر إلا بالإيحاء أي التخيل الذي يتخلق في الذهن عند استحضار صورة غابتي النخيل في السحر.
بعض الصورة اللفظية تولد خداعًا بصريًا وذهنيًا أيضًا كما هو الحال في هذا البيت الذي يظن لأول وهله بأنه مدهش متماسك, ثم يضمحل هذا الإدهاش, ويتخاذل هذا التماسك عند التأمل.