«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
عندما كنت على مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية وفي درس الجغرافيا سمعت المدرس يردد مقولة هيرودوت: «مصر هبة النيل» وراح يشرح لنا ببساطة أهمية النيل للشقيقة مصر.. وعندما أتيحت لي الفرصة لزيارة مصر في مهمة عمل وضعت من ضمن برنامج الزيارة الفضفاض أن أقوم بجولة في هذا النيل الخالد.. أو شريان الحياة ومنذ آلاف السنين. استأجرت مركباً وتمترست بكاميرتي وانطلقنا جنوباً في اتجاه القناطر الخيرية وكان المراكبي وزميله يستمتعان بسماع أغان شعبية. أين منها أغاني الراحلة أم كلثوم عن شمس الأصيل والنيل؟! طلبت منهما بلطف تخفيف حدة صوت الأغاني لأنني لحظتها أكاد أصيخ السمع لما يردده هذا النيل عن نفسه وأنا أكاد أسمع لسان حاله يقول لي:
مرحبا أهلاً بك في شريطي المائي العظيم الذي يمتد من حيث أبدأ وذلك عبر موردين اثنين أو كما يقال نهران يختلفان في طباعهما اختلافاً شديداً، فأنا النيل الأبيض وهو أطول ذراعي حيث أتفجر من ارتفاع 2621 متراً في غابات وسط إفريقيا الاستوائية وجبال جنوب بوروندي التي لا تبعد كثيراً عن بحيرة تنجانيقا.. وأعبر بحيرة فكتوريا ثم خارجها وأتدفق منطلقاً في شريطي الذي أفخر به وتفخر به كل الدول التي أعبرها على مدار ساعات اليوم. بعد ذلك أعبر المناطق الجافة والحارة جداً في السودان وهنا تكثر في مياهي أنواع مختلفة من التماسيح وأفراس الماء. وكم صورت أفلاماً عالمية في هذه الأماكن التي وثقت كيف يعيش أبناء هذه المنطقة وكيف يتعاملون مع مياهي العابرة لأراضيهم وهم يكافحون الحياة من أجل لقمة العيش ومئات السفن الشراعية التقليدية وحتى المراكب والسفن الحديثة تمخر شريطي المائي وهو يشق طريقه وسط 750 كيلو متراً من المستنقعات التي تحف بها أوراق البردى المخيفة.. وأنا النيل الأزرق حيث أرتفع شامخاً في جبال إثيوبيا إلى مستوى الـ 2000م وأعبر بكل فخر واعتزاز بحيرة تانا ثم أتدفق على شكل شلالات «تسيسات» العظيمة والرائعة بضبابها المميز وأواصل جرياني وتدفقي عبر 650 كيلو متراً من الغابات التي تنافس نفسها بجمالها وغموضها وما يعيش فيها من حيوانات وكائنات مختلفة.! واصل بعد ذلك إلى السودان وعبر شهور أربعة عاصفة أتدفق مانحاً هذه الأرض الخصبة مياهي الوافرة والمعطاءة التي جعلت من السودان سلة غذائية تتجه إليها أنظار رجال الأعمال والمستثمرين ومن بينهم أبناء المملكة. وفي العاصمة السودانية يجري نصفي لكي يقترن بنصفي الأكثر هدوءاً وعند هذه النقطة أحمل اسمي الحقيقي «نهر النيل» ومن هنا أمتد جارياً حاملاً الخير كل الخير لأرض مصر. وها أنت الآن تداعب بأصابعك مياهي. هل شعرت بها وبتعبها وهي تقطع آلاف الكيلو مترات خلال مشوارها الطويل من وسط إفريقيا. وراح النيل يواصل حديثه لي قائلاً: انظر حولك تطلع ذات اليمين وذات الشمال شاهد مئات الفلاحين وحتى الفلاحات وهم يمارسون حياتهم اليومية في العمل الزراعي. في القرى المتناثرة على ضفافي شاهد الجواميس المعصوبة العيون وهي تدور حول السواقي ورعاة الأغنام في الغيطان والأولاد وهم يتقافزون للاستحمام بمياهي وعشرات النساء يغسلن ملابس أفراد أسرهن وأواني مازلهن.. طالع مشاهد الحياة البسيطة في الصعيد.. لقد أبدعالإنسان المصري ومنذ القدم حضارة ما زالت إلى اليوم تشهد له بالإبداع وها هي آثاره على ضفاف نهري شاهد على ذلك وأكثر. بل متاحف مصر والعلم زاخرة بقطع الآثار الفرعونية والإسلامية وحتى الفطرية التي تجسد ما تركه النيل الخالد في العديد من جوانب الحياة في هذا الجزء الهام من العالم.. لقد ساهمت مياهي في نقل المسافرين والعابرين من الشمال إلى الجنوب في المراكب الفرعونية القديمة وبعدها المراكب الشراعية ومن ثم البواخر والسفن الميكانيكية.. شاهد كيف يعيش مئات آلاف في قواربهم النيلية على ضفافي. فقواربهم مساكنهم وفيها حياتهم وحتى يمارسون فيها أعمالهم البسيطة من صيد وحتى إعداد بعض المأكولات والأطعمة الشعبية التي يقومون ببيعها على رواد كورنيش النيل وليس هذا فحسب فتتناثر في مياهي العوامات العديدة التي يُعتبر بعضها مقاهي واستراحات يطيب فيها السهر والاستماع لألوان مختلفة من الأغاني وحتى بعض الاستعراضات والفنون.. وهناك عوامات عبارة عن مساكن راقية يستمتع بالسكن فيها أصحابها عشاق الحياة والسكن في مياهي!