حسن اليمني
هناك صورة مأساوية ترسم حال العالم العربي اليوم بكل أسف, عالم من التيه والضياع والشرود الذهني بل والغياب عن الواقع بشكل يجمع الضحك بالبكاء في صوت واحد، وفي خضم المحن والقتل والتشريد لا يوجد بصيص أمل لاستعادة العرب أنفسهم بكل أسف، سمعنا عن الفوضى الخلاقة، وقرأنا التقارير وشاهدنا حتى رسوم الخرائط الجديدة المرسومة للمنطقة، ومع هذا لم نر أو نقرأ لا خرائط ولا تقارير تشير من قريب أو بعيد لفهم عربي لما يجري على قدم وساق، الكل من العرب يركض بمفردة والقوى العظمى تدوس وتجوس بقدم وساق في كل شيء عربي.
إنّ باكستان وأفغانستان وتركيا وما وراءهم من دول آسيا الوسطى والسنغال ونيجيريا وإثيوبيا والصومال، وما بينهم من دول أفريقيا حائط الأمن القومي العربي، وإن كانت إيران الداخلة في دائرة المحيط الأمني القومي أصبحت اليوم بمثابة عاصفة هوجاء تحمل الغبار والجراثيم، فإن المحيط الأمني القومي للوطن العربي قادر على أن يهذب السلوك الإيراني ويضبطه، كما أن غياب الرؤية القومية الذي سمح بسقوط العراق العربي، هو الذي فتح الحصون لهذه العاصفة الهوجاء وأدخل معها السباع والضواري من الشرق والغرب لتفترس الأخضر واليابس، ويصبح مواطنو أكثر من قطر عربي بين قتيل ومعاق ومشرد ومعتقل، وإن العرب مذهولون اليوم من حال الوضع الأمني القومي وكيف أصبح هشيماً تذروه الرياح، فإنّ العرب بكل أسف لازالوا في دائرة الرحى ولا أحد يستطيع رسم صورة للغد، بل إنّ علامات ومؤشرات الغد الساخن تلوح في الأفق لما تبقى فلا تبقي ولا تذر.
إن تنشيط وتفعيل العلاقات مع دول المحيط العربي مثل الباكستان وأفغانستان وتركيا ودول أفريقيا الوسطى وإثيوبيا هي الأهم اليوم، فهذه دول صديقة ولنا معها أفضل العلاقات وبعضها يتماس مع إيران بحدود طويلة، ومن خلالها يمكن ضبط السلوك الإيراني ومحاصرة المرتعدين والمترددين في الداخل العربي، كما أن التزاحم الروسي الأمريكي وهو يعيد الحرب الباردة بشكل سريع وقوي وخطر يمكن الاستفادة منه في تحسين الخيارات، إذ يبدو أنّ روسيا عازمة فعلاً على زحزحة النفوذ الغربي من المنطقة العربية أو على الأقل العودة مرة أخرى، ولكن بشكل أقوى عن وجود الاتحاد السوفييتي الذي بعثره العجوز بريجنيف ثم أنهاه المتحذلق غروباتشيف، واليوم فإن فلاديمير بوتين عازم على العودة إلى المسرح الدولي والتأثير فيه، كما أنّ الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يبدو، قد اختارت استراتيجية مختلفة لإدارة العالم بشكل جديد، يظهر ذلك من خلال تبدل النظرة لما كان يعرف بالأصدقاء والحلفاء، بالطبع الكيان الصهيوني مستثنى دائماً وأبداً من القاعدة، فهو حالة نشاز غير خاضع للقياس.
إنّ تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد بوش الصغير، بما حمله الطموح الجامح في السيطرة بالقوة من زلزال اقتصادي كاد يسقط أحلامها، رسمت استراتيجيتها الجديدة في ضرب اقتصاديات القوى المنافسة بصناعة المغريات الجاذبة، للتورط بمصارعة التاريخ في جغرافية حيوية مغرية، كمنطقتنا العربية التي صار فيها الكيان الصهيوني متفرجاً بل يأخذ دون أن يعطي، وتتفتت القوى من حوله، وقد شاهدنا حرارة الصداقة التي دبت فجأة بين نتنياهو والسيد بوتين دون أن يؤثر ذلك في مصير علاقة تل أبيب بواشنطن، ليس صحيحاً أن روسيا تنظر لإسرائيل كنظرتها لأمريكا، وليس صحيحاً أن الكيان الصهيوني مستعد لتبديل الحليف الغربي بحليف شرقي ولا حاجة أصلاً تدعو لذلك، ولكن الصحيح أن إسرائيل تسير في الاتجاه الأمريكي الصحيح، والصحيح أيضاً أن روسيا تدرك هذا الاتجاه ولكنها تراهن على فشله، وتسعى للاستفادة منه كفرصة تاريخية لتحقيق الارتقاء في القوة والتأثير على المستوى الدولي على حساب الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما نراه ونعايشه من صراع في سوريا وحلب بالذات، وما إسقاط الاتفاق الثنائي عنا ببعيد، بل إن الاختلاف بين البنتاغون والخارجية الأمريكية حول الاتفاق ثم الوصول إلى حالة التهديد من كلا الجانبين الروسي والأمريكي، وإن أضفنا حالة التباكي المفاجئة من أمريكا وبعض دول أوروبا كفرنسا على أطفال حلب، إنما تشير وإنْ بشكل خفي، إلى كشف حقيقة الاتجاه الذي تسير فيه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وإن كانت بدأت بالقوة العسكرية في أفغانستان والعراق، إلا أنها استبدلت الأدوات، فبدلاً من أن تكون هي التي تتحمل تحقيق النتائج بالقوة العسكرية بما يكلفه من خسائر في الأفراد والعتاد والاقتصاد، إلى ترك الآخرين يحققونه لها بقوتهم العسكرية والاقتصادية، وأقصد بعض العرب وإيران وروسيا.