د.فوزية أبو خالد
1
استجراح الكمين
أستجرح هذا المقال وأخرجه من مخبئه في ملفاتي الضائعة؛ إذ نقلت كل فوضى مكتبي الخشبي لمكتب إلكتروني. تلك الملاحقة الفادحة التي أتعرض لها هذه الأيام من قبل الزميل والصديق عبدالوهاب العريض للبحث عن كل الكمائن التي كتبتها على مدار عشرين عامًا. فبعد أن كنت قد يئست من لَمّ شعث كمين الأمكنة في كتاب، وأسلمته كمعظم كتاباتي لقدر الرياح تذروها كيفما تشاء، لاحت على الأفق بارقة أمل، وبان في آخر النفق ضوء، اسمه بيت الشعر الذي قرر أن يطبع لي كتاب كمين الأمكنة.
ولم يكتفِ الشاعر أحمد الملا وكوكبة الثقافة والفنون بالدمام عبدالله السفر وزكي الصدير وعبدالوهاب العريض بما ألقوه على عاتقهم من جهد الإعداد غير العادي للمناسبة الثقافية التي يراد لكتاب الكمين أن يخرج أخيرًا للوجود متزامنًا معها، بل قاموا بتوريط العزيز عبدالوهاب العريض في مهمة إعداد الكتاب، كما قاموا بتحريضه لينتزع مني كل الكمائن الضائعة في الأوراق وإلكترونيًّا. فلم يكتفِ أ. عبدالوهاب العريض بدوره - كما كتب قبل بضعة أسابيع في زاويته بجريدة اليوم - بمشقة جمع ما نُشر من كمين الأمكنة إبان إشرافه على الملحق الثقافي لجريدة اليوم، بل قام باستنفار أرشيف معهد الإدارة الصحفي للحصول على ما ضاع من الكمائن؛ فتفضلت العزيزة أ. أمل الحسين بإنجاز المهمة على أكمل وجه. ولما كان متابعًا، ويعلم أن هناك عددًا من الكمائن المتفرقة التي إما لم تنشر، أو نُشر بعضها في منابر ورقية أو إلكترونية على مدى عقدين، فقد أصر إصرارًا نبيلاً على انتزاعها مني بشكل أخجلني، وورطني في عملية غير سهلة من البحث عن كمين الأمكنة. ولقد وقعت يدي في رحلة البحث الشاقة - وكنت كمن يحاول التفتيش في هشيم - على هذا الكمين الذي قررتُ أن أنشره هنا؛ لما فيه من كشف عن الحبر السري الذي كتبت به الأمكنة وكمائنها. فهل من يستدل معي على السر؟
2
السر في كمين الأمكنة
لا بد من المصارحة بأنني منذ أن نحت بالحبر فضاءات الروح في مخطوطة كتابي «كمين الأمكنة» قبل ما يزيد على عشرين سنة لم تُشفَ يدي بعد من قروح تلك التجربة، ولم أنجح في كف رائحة المكان عن اللعب بأعصابي من حينها إلى اللحظة التي سأغمض فيها عيني للمرة الأخيرة.
فكيف لمن أنشب عشق الوطن مخالبه في خصرها أن تكتب بحياد عن اندلاعات المواقع من عيونها كلما رمشت, وعن شهيق وزفير النفود والدهناء السروات والساحل ووادي الرمة ووادي حنيفة ووادي فاطمة والسرحان في رئتها كلما تنفست؟
في كمين المكان كتبت عن ملاعب طفولتي في الحوية وشهار ووادي وج وبساتين الفيصلية بالطائف، عن المجرور والرمان وأثواب الحويسي. فهل تستطيع كاميرا السياحة الرقمية أن تلتقط مشهد شوك البرشومي الذي لا يزال عالقًا بقلبي؟ هل تستطيع سوى حواس المكان أن تسمع خفقات قلوب الأطفال وبسملة الأمهات فيما سيارة صغيرة محشوة بكبار وصغار الأسرة تمرق كأنها على حبل رهيف عبر جبل الهدى الطالع والنازل بالتواءاته المريعة على الطريق من الشرائع إلى قمة الكر بالطائف؟
كتبت عن مكة المكرمة فكشفت عن حفريات التاريخ في دمي, عن مسرى هاجر وخديجة وسمية وأسماء، عن أبواب الحرم وحرمة دم الحمام في الأشهر الحرم, عن تلك البقعة الجرداء التي تحولت إلى مهوى الأفئدة وعدة قارات في قرية واحدة (أم القرى)، عن هاجر وطفلها إسماعيل وهي تقف وحدها في صحراء ضارية وهي على يقين بأنها ليست وحدها. فهل تستطيع تقاليد الوفادة الفندقية ذات (الخمسة نجوم) أن تقدم للضيف هوى معتقًا في تلك الجرار المبخرة بالبخور الجاوي والمستكا، أو تسقيه ماء مرقيًّا بسورة (اقرأ)؟
فلما وصلت سهل تهامة عبر وعور سلسلة جبال الحجاز تنحيت لنساء الجنوب؛ ليكتبن بعروق الحناء وعرق المخاض وخوص القبعات على مدرجات الجبال حفيف الشجر، مواسم الأعراس، سيرة بلقيس، شجن الأرض ساعة هطول المطر.
أما عندما أنخت بمسجد عمر فقد صليت ركعتين لله الواحد الأحد الذي أخرج الظلام من جزيرة العرب، وأرسل شمس الهدى إلى ما وراء الأفق. وحفرت بمغرز النسيج أسماء ملكات الشمال, بنات الشمال على مجرى المياه. حييت الرجاجيل بما يحمله الجوف وجبل أجا وسلمى من هواء نقي. فهل من رحالة يلمس لمس اليد مخمل الخناجر الغائرة؟ أو هل من مرشد سياحي يدل على معبر سهيل والثريا في الأحلام؟ هل من يشم رائحة الشواء السخي، يخرج من ديار حاتم الطائي، ويجوب أحياء الفقراء ومنقطعي السبيل كلما مر بحائل؟
هل للعابرين أن يقرؤوا ملح تاروت وفوار عين نجم وأحزان دارين وزيت أبقيق في تشققات جلد البحارة والنوخذة وعمال البترول وعلى سواعد عسيب السلج والسكري ونبوت سيف؟ هل من يتهجى التعرجات على طريق الجماجم أو الدروب المؤدية إلى الخفجي؟ هل من يسمع سور المعوذات في استغاثة المعلمات كلما اصطدمت سيارة بشاحنة على طريق المدارس بين القرى والمدن في غبش الفجر؟
مزجت حبري بهوى ملهم تحديدًا من أرض نجد، وبشهقات شعيب حريملا من سفوحها، وبمرابع الدرعية وعرقة والعمارية ومغاور الصمان، وبشجر سدر عليشة والبديعة وبثيل حي السفارات، وكتبت حنين الواحات للقوافل، شكوى برج المملكة للسحاب, تأرجح الشباب بين صخب التطعيس وبهرجة متاجر البضائع المستوردة في شارع التحلية بين الرياض وجدة. وأكتب الآن وحدة وطن على أرض نجران الأبية بقامات شباب جاؤوا للحمى بأرواحهم على أكفهم حبًّا وكرامة من كل فج قريب أو بعيد من أرض المملكة العربية السعودية فداء للجزيرة العربية.
فهل من يستطيع سوى العشاق والمرضى بالبلاد من الكتاب أن يقوم بقيافة خطى الغزلان، ريش الحباري، تنهدات المحار, قشعريرة المربعانية، صهيب الصيف، صهيل الأحصنة، دعاء الأمهات، تعدد اللهجات، تنوع الأمزجة, قصائد المعلقات، قصيدة النثر، كبت المشاعر وبوح الشبكة العنكبوتية في تشكيل مكونات المكان وفسيفساء الأنفس؟ هذا هو التحدي الإبداعي والحضاري معًا الذي علينا أن نبحث عنه في أنفسنا، ونكابد من أجله لقراءة حفريات الصخر والقصائد والحنطة في كمين المكان الحبيس بين الضلوع الطليق في الروح والحبر.
... ... ...
* مخطوطة كمين الأمكنة نشرت تباعًا بالصفحة الثقافية لجريدة اليوم الصادرة عن المنطقة الشرقية بين العام 1993- 1996.
وتنشر - بإذن الله - ككتاب منتصف شهر ديسمبر 2016م من قبل بيت الشعر لجمعية الثقافة والفنون بالدمام.