(أيا جارتا إن المزار قريب وإني مقيم ما أقام عسيب
أيا جارتا إنّا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب)
أفلحت أبيات امرئ القيس أخيراً بالوصول إلى قلوبهم ولفت انتباههم ليتحلّقوا حولي ويسألوا عما تعنيه كلمة نسيب.
تقول ذات الأعوام السبعة عشر..لأول مرة أجد أبياتاً كاملةً اعرف كل كلماتها عدا واحدة.
كانت سلسلة طويل من محاولات حثيثة فاشلة للفت نظرهم لجماليات العربية ، لم تقنعهم بأن هذه اللغة قادرة على مماشاة العصر.
أغرتني التفاتتهم أخيراً لشيء ما ، فبدأت تنهال من ذاكرة أصبحت شبه منسية حكايا عشق عنترة يمتزج بفخر الرجال ،عتب ابن العبد على خذلان عشيرته. ورد ابن كلثوم الكريم المجلجل على إهانة بنت المهلهل..
رؤيتهم متحلقين حولي يستمعون بلا ملل.. وإن لم يخل الأمر حيناً من ألفاظ ثقيلة على مسامعهم، لكن موسيقا الشعر تلك شقت الطريق نحو حديث ذي شجون.
إنهم جيل لا يملك الصبر على تعقيدات اللغة ، ولا يملك صبرا على الجمل الطويلة. لا يريد ان يضيع وقته في دراسة قواعد تعتني بكل صغيرة وكبيرة.
يلحقون السهولة والسلاسة لذلك يجدون في اللغة الغريبة هدفا ينشدونه في نهجهم الثقافي حتى أصبحت بديلا له.. ونحن عالقون في زوايا القواعد والالتزام بالحروف المسموحة والممنوعة.
ينشد الشعر العربي التفخيم والسجع والصور فتفقد الأبيات المحتوى الذي يحبونه : البساطة.. لقد حفظ القرآن الكريم اللغة العربية من التغير. وهي هبة نشكرها دوما فما زالت لغتنا بكامل قوتها وتماسكها، لكن هذا سلاح ذو حدين، إذ بقدر ما حفظها من الضياع أفقدها مرونتها من جهة اخرى. وها قد مرت عصور وعصور واللغة على حالها.
الزمن يمر على كل شيء. ولا يرحم من لا يبدل خطوه بما يتماشى مع ما يحدث.. ففي عصر أصبحت العولمة شبحاً يطارد كل خصوصية تنفرد بها الأمم لا يصح ان نلزم التجاهل ونترك لغتنا للهجران، فاللغة تأخذ قيمتها ممن يتداولونها. لا يرتبط الأمر بالعربية فحسب. فحتى الإنكليز الآن عندما يقرؤون لغة شكسبير القديمة لا يفهمونها.
ومع هذا لم ينشغلوا بالحفاظ عليها بقدر انشغالهم بالسماح لها بالتطور وها هي تغزو العالم فتكاد تكون لغة عالمية يفهمها الجميع. السبب ببساطة هو مرونة تتجاوز التعقيدات.
جيل الشباب لا يعنيه كثيراً الالتزام تجاه لغته الأم فهو لا يدرك بعد ان اللغة هي الهوية وهي فرادة الشعوب وتميزها ، لذلك فهو يتبع سلاسة اللغات الغريبة دون الاهتمام بهجران اللغة الأم.
فما الذي نفعله نحن معتنقيها والمخلصين لها ، وما الجهد الذي نبذله لأجل حفظها وصونها من الضياع هل سنتركها لتغدو لغة الكهولة والزمن الغابر أم نحاول ان نجعلها تتماشى مع روح العصر.
إن التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة فإنَّ توقف التغير توقفت الحياة أيضاً.. هل حان الوقت لإعادة النظر بإبقاء اللغة على ما هي أم السماح لها بالمرونة والتبدل حتى تجاري التغيرات السريعة التي تتطلبها مجاراة الحياة.
- آمال عبد الصمد
amal511as@gmail.com