يموج العالم اليوم بالعديد من المتغيرات السريعة، حيث فتحتْ وسائل التواصل المختلفة فضاءات واسعة من الانفتاح المعرفي والثقافي بين كل جزء من هذا العالم، الذي أضحى كالقرية الصغيرة بفعل التقنية والتكنولوجيا المتطورة، التي بلغت في السنوات الأخيرة أعلى مستوياتها، فتلاقحتْ العلوم، واتصلت المعارف، وتقاطعت الثقافات، وأصبح على كل أمة أن تسابق الزمن لتلحق بركب الشعوب المتقدمة.
وبفعل هذه الثورة المعلوماتية وتطور وسائل الإعلام والاتصال التي تعاضدتْ معها عوامل أخرى كصعود دور الأديان ظهر مفهوم (حوار الحضارات) الذي يعد من المفاهيم التي انتهى بها القرن العشرين، حيث أصبح يحتل مكان الصدارة في قائمة الاهتمامات لدى العلماء والنخب الفكرية والسياسية ومراكز البحوث المختلفة الدولية، كما أصبح هذا المفهوم حاضراً بقوة في جدول أعمال الكثير من اللقاءات الدولية الثقافية والسياسية والاقتصادية، خاصة بعدما أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2001م عاماً للحوار بين الحضارات، وكرَّس منتدى (دافوس) الاقتصادي العالمي قبلها جلسةً خاصة لتناول هذا الموضوع المهم.
وقد أدركتْ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية هذه الأهمية بقيادة معالي الشيخ سليمان أبا الخيل الذي وجَّه بإنشاء كرسي علمي وبحثي خاص بحوار الحضارات، بالشراكة بين الجامعة وجامعة (السوروبون) باريس 1 بانتيون، عام 2010م لتكون باريس مقراً له، وكان هذا الإنجاز العالمي ثمرة من ثمار الندوة الثانية للحوار السعودي الفرنسي التي استضافتها جامعة (السوربون).
والمتابع لأنشطة هذا الكرسي الدولي يرى بوضوح ما حقَّقه خلال السنوات القليلة الماضية من إنجازاتٍ مذهلةٍ ونوعية، حتى صار يُعدُّ من أهم الشراكات الفكرية والعلمية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية فرنسا، حيث أخذ الكرسي على عاتقه وعبر نشاطاته المتعددة تفعيل الحوار، ومدَّ الجسور، وتمتين العلاقات بين النخب الأكاديمية والفكرية والثقافية بين البلدين الصديقين، ومنذ اللحظات الأولى لإنشائه أَوْلى هذا الكرسي المتميز بالغ اهتمامه بتطوير إمكانات النخب الأكاديمية؛ لأنه يدرك تماماً أنَّ لها دوراً كبيراً في الإسهام في تعزيز التفاهم المشترك كواحدٍ من أهم دعم سبل السلم الدولي.
ومن أهم الأنشطة التي نفذها الكرسي في الآونة الأخيرة تلك الندوة الدولية المقامة في الرياض مطلع عام 20م، التي ركزت على (دور الجامعات والمراكز البحثية الثقافية في حوار الحضارات)، وشرفتْ بمشاركة نخبة من مديري ورؤساء عدد من كبريات الجامعات في العالم، وقد كان لهذه الندوة أصداء مميزة تجاوزت حدود المحلية إلى العالمية، بل كانت إحدى أهم الفعاليات العلمية التي شكَّلت نواة حقيقية لبلورة دور النخب الأكاديمية والفكرية والثقافية في تعزيز التفاهم والعيش المشترك بين الأمم والشعوب، وهو واحدٌ من أهم الأهداف الرئيسة التي يسعى الكرسي إلى تحقيقها.
وقد خرجتْ تلك الندوة الدولية بمجموعةٍ من التوصيات بالغة الأهمية، تُشكِّل في مجملها توخِّياً للأهداف المستقبلية التي يعمل الكرسي على تحقيقها، من تلك التوصيات الحرص على تواصل الجهود لتأهيل المزيد من النخب السعودية والعربية والخليجية القادرة على الإسهام الفاعل في الحراك الدولي، الهادف إلى مناهضة العنف وتعزيز التعايش السلمي من خلال الاتصال الثقافي والحوار الحضاري.
ولحرص الكرسي على تفعيل هذه التوصية المهمة قام بتنظيم برنامج تدريبي في مقره بجامعة (السوربون) بباريس تحت عنوان (أسس ومبادئ وتطبيقات الاتصال من أجل التعايش الإنساني ونبذ الكراهية)، يستهدف تعزيز دور النخب الأكاديمية ذات العلاقة بالاتصال بالآخر في الجامعات والمؤسسات المهنية في خدمة الإنسانية، من خلال تبادل المعارف والخبرات وتنمية المهارات التطبيقية في مجال الاتصال بالآخر، وبحث علاقة المتغيرات الدولية بما يشهده العالم من اضطرابات وتناحر، ويؤكد على دور النخب في توجيه المسار نحو اتخاذ التفاهم سبيلاً للتعايش بدلاً عن التناحر والاضطراب والتحريض على الكراهية.
وكان من حسن حظي أن نلتُ شرف ترشيح معالي مدير الجامعة للمشاركة في هذا البرنامج التدريبي الخاص الذي استقبلنا منظموه ببالغ الحفاوة والتقدير، إلى جانب عدد من النخب الفكرية والثقافية من مختلف الجامعات السعودية، وجرى عقده في رحاب جامعة (السوربون) في العاصمة الفرنسية على مدى ثلاثة أيام في الفترة من 17 حتى 19 أكتوبر من هذا العام الميلادي 2016م، وقد ضمَّ البرنامج مجموعة من المحاضرات القيمة التي ألقيت من قِبل قاماتٍ علميةٍ وفكريةٍ من البلدين الصديقين، كما اشتملتْ على زياراتٍ علميةٍ وثقافيةٍ لعددٍ من المكتبات والمراكز الثقافية في باريس.
وكان من أهم الأهداف التي نجح البرنامج في تحقيقها ببراعة التعريف بأسس ومبادئ ومهارات الاتصال الثقافي والحوار الحضاري وما يواجهه من تحديات، والاطلاع على أهم المتغيرات السياسية والفكرية والاقتصادية الدولية ذات العلاقة بالاتصال بالآخر، والكشف عن مرتكزات موقف المملكة من الآخر، وبيان عنايتها بتحقيق التعايش الإنساني وتعزيز السلم الدولي.
كما سعى البرنامج في أيامه الثلاثة الفاخرة إلى بيان الدور المنتظر من النخب الأكاديمية في الجامعات والمؤسسات المهنية المعنية بالاتصال بالآخر للإسهام في تحقيق التعايش الإنساني وتعزيز السلم الدولي، والحرص على تبادل الخبرات والتجارب حول مقتضيات وواقع الاتصال بالآخر، وإسهامات النخب في الدعوة إلى التعايش السلمي وتعزيز السلام العالمي ونبذ الكراهية.
وقد حرص البرنامج على استهداف النخب الأكاديمية والفكرية والثقافية في المملكة العربية السعودية، مولياً عنايةً خاصةً بأساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين والمهتمين بالاتصال والإعلام والحوار والعلاقات الدولية، كما كان موجَّهاً إلى العاملين في القطاعات الحكومية والأهلية ذات العلاقة بالشؤون الخارجية والعلاقة بالآخر على المستويات كافة: سياسياً وإعلاميا وثقافياً واقتصادياً وأمنياً.
وقد سعدتُ وأفدتُ كثيراً من هذا البرنامج الاستثنائي الذي تضمن عدداً من المحاور القيمة التي تعزز من أهداف جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ممثلة في كرسي حوار الحضارات المستمدة جميعاً من موقف المملكة العربية السعودية ورؤيتها ورسالتها ومرتكزاتها في التعامل مع الآخر، وهي خطوة غير مسبوقة تحسب لهذه الجامعة العريقة التي تضع دائماً خدمة الدين والوطن في صدارة اهتمامها.
والحقُّ أنَّ هذا البرنامج العالمي لم يكن غريباً من الجامعة، إذ هو يأتي في سياق جهودها الحثيثة والهادفة إلى الاستجابة لمبادرة حكومة هذا الوطن المعطاء الداعمة لمنظومة حوار الحضارات التي انطلقت في أساسها من دعوة المغفور له بإذن الله الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى تبني الحوار بين الأمم والحضارات وأتباع الديانات سبيلاً إلى التعايش والتفاهم، ونبذ الكراهية وإشاعة الحب والسلام بين الإنسانية.
لقد شعرتُ ببالغ الفخر والاعتزاز وأنا أرى جامعتي المتميزة تقوم بهذا الدور القيادي الريادي الذي أثق أنَّ بقية الجامعات السعودية تغبطها عليه، ولعل مثل هذه النشاطات العالمية تكون محفزاً لبقية جامعاتنا لاقتفاء أثر جامعة (الإمام) التي لم يكن ليتهيأ لها هذا النجاح الكبير لولا توفيق الله ثم الدعم الكبير الذي تلقاه من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن نايف وولي ولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهم الله جميعا وأمد في أعمارهم.
إنَّ الجامعة تسير بقيادة معالي الشيخ الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل نحو العالمية، محققةً تطلعات ولاة الأمر، وساعيةً إلى دعم كلِّ ما من شأنه تحقيق مصالح المملكة العربية السعودية في الكيان الدولي، ولهذا فلم يكن مستغرباً أن يرعى هذا البرنامج معالي الشيخ الذي حضر بنفسه متكبداً عناء السفر؛ ليحظى بمتابعة قريبةٍ ودقيقةٍ لنتائج هذا البرنامج، مؤكداً في كلمته للمشاركين على وجوب نقل ما استفادوا منه من أفكار وأساليب ورؤى إلى القاعات الدراسية والمجالات الأكاديمية كافة، لنحظى بجيل واعٍ مثقف يحب الحوار الثقافي المثمر وينبذ الكراهية والتعصب ويعشق التعايش السلمي وتحقيق السلام.
إني أثق تماماً أنَّ عبارات الشكر وحروف التقدير لا يمكن أن تفي هذه الجامعة الوطنية المخلصة التي أتاحتْ لي ولغيري من الأكاديميين من الجامعات السعودية حضور هذا البرنامج العالمي المهم، أما الرجل الذي رعى هذا البرنامج فأثق أنه لا ينتظر شكراً ولا تقديراً؛ لأنَّ رؤية علم بلاده خفَّاقةً في المحافل الدولية هي أعظم كلمة شكر يتلقاها، ومع هذا فلا يسعني إلا التقدُّم بوافر الشكر والثناء لمعالي الشيخ سليمان أبا الخيل الذي خَطَتْ الجامعة في عهده وبقيادته خطوات واسعة، وكان حضورها الدائم في المناسبات المحلية والدولية حضوراً لا يضاهيه حضور، وإني على ثقة أنَّ معاليه ومَن وراءَه من الوكلاء المخلصين لن يرضيهم كل ذلك، بل سيعملون على مواصل العمل وزيادة التوهج وتألق الحضور في كل محفل؛ لأنَّ الطموح عالٍ والأماني كثيرة، والعزم على الوصول وتحقيق النجاحات حاضر دائماً، والجامعة بمثل هذه البرامج والندوات العالمية تحقق جزءاً من رؤية المملكة ورسالتها في العالم الدولي، وتسهم في خدمة الوطن الذي نتشرف دائماً بالانتماء إليه، ونختلف في كلِّ شيءٍ إلا على حبه، والإخلاص إليه، والدفاع عنه.
- كلية اللغة العربية بجامعة الإمام
Oasm1401@