في ضحى أحد أيام أغسطس في غرب العاصمة التشيكية براغ وفي أحد فنادق مدينة (كارلوف فاري) وهي مدينة حالمة هواؤها نسيم وماؤها رحيق, كنت راكباً المصعد متجها من الطابق الرابع عشر للطابق الأول لتقديم دورة هناك، وحدث أن توقف المصعد في الطابق الثامن وركب معنا شيخ وقور ذو نظرة ودودة تعلو محياه ابتسامة عذبة، يرافقه شاب غاية في الأدب، وبعد أن سلم هذا الشيخ, سأل من كان في المصعد عن الحال، فرد عليه أحد الموجودين قائلا: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فطفق يتحدث عن المقولة ويشرح، وكيف أن الله لا يصدر منه مكروه، وفجأة وصل المصعد لطابقي ولكن ومن شدة إعجابي بحديثه بقيت معه داخل المصعد مشنفاً الأذان مستمتعاً بعذب منطقه حتى أنهى حديثه، فودعته وخرجت، وبعدها كنت أحدث نفسي عن من يكون هذا الشيخ الوقور! وبعدها عرفت أن صاحبي هو الشيخ سليمان الفالح، وهو رجل أشهر من علم وأعرف من أن يعرف، وهو أحد الوجهاء، رجل نال ثقة ولاة الأمر فلقد تولى العديد من المناصب وآخرها مستشار عند وزير الداخلية, جليل فضائل، جميل شمائل وهو من الذين أفادوا البلاد ونفعوا العباد -أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً- فافتخر به الوطن والزمن، وكان -أطال الله في عمره- أن تواصل معي قبل سنوات معلقاً على إحدى مقالاتي بود ولطف ودعابة.
لقد سمعنا بأوصاف لكم كملت
فسرنا ما سمعناه وأحيانا
من قبل رؤيتكم نلنا محبتكم
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وكنت أنتظر الغد حتى أقابل الرجل في بهو الفندق، ولم تسعني الفرحة عندما وجدته جالساً مع مجموعة من الوجهاء فذهبت إليه يسبقني احترام وتقدير بالغان وعرفته على نفسي, فاحتفى أيما احتفاء كرم ولطف، وحسن حظي بعدها بمرافقة له في أيام معدودة فكانت تلك الانطباعات عن هذا الرجل الكريم:
1. الشيخ سليمان رجل طلق اللسان لا يمل مجلسه ولا يكل جليسه، سلس البيان ينتقي من جزل الألفاظ وعذب العبارات وعمق المعاني ما يملك به سمع ولب السامع, مع ظرف طبع وخفة ظل قلما تجدها في شخص.
2. الشيخ سليمان من أكثر من رأيت أدباً, رجل في غاية الذوق والأدب، كان يحترم الجميع الصغار والكبار, ويبذل التقدير للجميع على كافة أطيافهم وتباين ثقافتهم, والأدب هو صورة العقل.
3. البعض تجالسه سنين وترافقه دهوراً ولا تأخذ منه شيئاً، ولكن من البشر من تتعلم منه في ساعات من تصرفاته العفوية دون أن يتكلف نصيحة أو يتعمد موعظة!
4. مما أذهلني من الشيخ القدرة العجيبة على الإنصات مع كل من يتحدث، فكان يقبل على المتحدث بوجهه المشرق متفاعلا أيا كان حديثه وعمره، لا يعبث بورقة ولا يسرح من طرف ولا ينشغل بجهاز!
5. يملك حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية ذاكرة عجيبة فقد ذكرني بكلمة سبق أن ألقيتها قبل خمس سنوات في حفل تكريم الدكتور الأنيق عبدالعزيز الفالح وقد تسللت تماماً من ذاكرتي في معرض تشجيع لي، بل ويحفظ ما هو أقدم وأدق.
6. أهديته بعض كتبي لا لتضيف له شيئاً بل إكرام وإجلال, فهل ترونه أخذها وسكت؟ بل شكرني شكرا وافرا، وبعد هذا هل توقف الأمر على الشكر فحسب؟ أبدا فعندما قابلني لاحقا أثنى على تفاصيل الكتاب وبدأ يتحدث عن بعض ما في الكتب من مواضيع وهو هنا يقدم درسا في فن الثناء, وذلك بالتنبيه على التفاصيل وعدم الاكتفاء بالصورة الكلية وهذا من تمام عقل هذا الرجل.
7. الشيخ سليمان بعيد نظر وعميق رؤية حكى قصة له مع الشيخ صالح الراجحي رحمه الله, وكان قد دعا الشيخ صالح رحمه الله لمنزله، ولكن الشيخ صالح لم يقبل الدعوة إلا بعد أن شرط (البساطة) في المناسبة فيقول: أتى مبكرا وكان طعام العشاء شيئاً مما في البيت دون تكلف وخرج مبكراً، وهنا يقدم لنا درسا في فن البساطة وأن الكرم لا يعني التبذير واهدار النعم والمبالغة.
8. الشيخ سليمان رجل عاقل جرب وفكر وامتحن، فمن خلال حديثه تجده ينظر للأمور والبشر نظرة عميقة ثاقبة، يتفهم المواقف ويتلمس جميع الزوايا ولا يستنكف عن أخذ كل ما ينفع ولو كان القائل في عمر أحفاده.
9. في صبيحة مغادرتي للمدينة بحثت عنه لتوديعه ووجدته -أسعده الله- يتناول طعام الإفطار، وكان معه جمع من الناس، وعندما سلمت عليهم مودعاً، ترك طعامه وقام ولحق بي وأخذني جانباً، وهمس في أذني بحدب الوالد: هل تحتاج إلى شيء يا ولدي! فلم يكتف بالوداع ولم يعرض تقديم الحاجة أمام الآخرين, لله أنت أبا نايف ما أروع خلقك! والذي يعرف الشيخ يدرك مدى حب هذا الرجل للمعروف وبذله فهو يمد يد العون للقاصي وللداني يجبر الكسر.
إِني لتطربُني الخِلالُ كريمةً
طربَ الغريبِ بأوبةٍ وتلاقِ
ويَهُزُّني ذكْرُ المروءةِ والندى
بين الشمائلِ هزةَ المشتاقِ
صاحب قلب كبير ومشاعر إنسانية صادقة لا يتكلف ولا يتصنع فمشاعره نقية ومداركه صافية حفظه الله.
10. في كل جلساتي معه لم يتعرض لكائن من كان بقدح ولا لمز أو تقليل قدر، بل رجل يملك عين نحل لا يرى إلا الجميل ولا يقف إلا على البديع.
11. من علامات المروءة هي الوفاء، والشيخ ارتقى في سلم الوفاء، فكان ما يفتأ يذكر زوجتيه بالخير، وكذلك من رافقه وزامله ومنهم الشيخ راشد العصيمي شفاه الله.
12. البشر أحياناً مع زحمة الحياة وتسارع إيقاع يومهم ربما يغفلون أو ينسون بعض الأمور المهمة، لكن الشيخ رعاه الله يعتني بأدق التفاصيل، ومنها عندما دعاه سعادة اللواء سعود العصيمي لتناول طعام الغداء في منزله، وكنت غائباً حينها، أوصى الشيخ ابنه البار ماجد بالاتصال بي ودعوتي على دعوة اللواء, أبوة حانية ولفتة رقيقة والشيخ لا يكتفي بتقديم ما هو واجب بل تجاوزه إلى ما هو أعظم، ومن عظم أخلاق الشيخ أنني اتفقت مع الأخ ماجد على أن نلتقي في ساعة معينة في بهو الفندق وحدث أنني انشغلت وتأخرت عليهم، والله وجدته ينتظر لم يغادر ولم يتصل يبحث بل كان على عذوبة ابتسامته وقابلني بلطف وترحيب!.
13. ما أروع حديثه عن الماضي، بارع في سرد القصص وتلمس الفوائد وعرض العبر، و ما الماضي إلا قلب ثانٍ يخفق بين الجوانح.
14. كنت أرافقه في أحد المرات التي كان يمارس فيها رياضة المشي، وبينما كنا نمشي بين تلك الأنهار العذبة والسحاب الضاحك نظر لي وقال: كم تتصل على والدتك في اليوم؟ والشيخ تربوي موجه حكيم، سأل ولم يكثر! ولكنه سؤال نبهني وحرك مشاعري!.
وأخيراً فإن ما كتبت ما هي إلا قطرات من بحر وزهرات من واحات غناء, وحاشا أن أتجرأ أصف نور القمر أو ضياء الشمس، وما حديثي عن الشيخ سليمان لدرجة رفعها أو لهبة أعطاها -وهو أهل لهذا- ولكن على قيم بثها ومكارم نشرها، فله في قلبي من المودة ما يزكيها سناؤه وفي عقلي من الإجلال ما يرفعه فعله, فلا لوم إن صافيته صحيفة ناصعة البياض أجريت عليها قلمي لأملأها بما يمليه عليَّ ضميري، دونت فيها شيئاً مما عايشت وليغفر الله لي ما ذهلت عنه!.