د. جاسر الحربش
من أرخص أنواع الترف النقاش عن انتماء أو قومية أو تاريخ مشترك نيابة عن أناس يتعايشون يومياًً مع الموت. هذا الترف يمارسه الكتاب والمتحدثون في وسائل الإعلام عن إخوانهم المحاصرين في حلب والموصل. البعض يتحدث مؤيداًً تدخل تركيا في الحالتين والبعض يعارض. من يؤيد يستشهد بتدخل إيران ومرتزقة المذهب وفي تدخل روسيا وبتلاعب أمريكا بالجميع، وأهم من ذلك يستشهد بالغياب التام لمن عليه واجب تقديم بعض الأمل للعرب السنة في حلب والموصل، وواقع الحال يقول لم يبق في المدينتين سوى العرب السنة. الآخرون غيرهم سهل لهم النزوح إلى طوائفهم العرقية والمذهبية قبل إحكام الحصار على حلب والموصل.
من يتحدث معارضاً التدخل التركي يستشهد بتاريخ تركيا الاستعماري الدموي وتعليق المشانق للمقاومين العرب في الشام والعراق، وبأن الوجود التركي في كلتا الحالتين مجرد تأكيد حضور لتقاسم الغنائم بعد نهاية الحرب. الاتكاء على هذه الحقائق لكل الطرفين صحيح، ولكنه صحيح للمتحاورين من خارج منطقة الصراع فقط، وليس لأولئك الذين يتخطفهم الموت والجوع وانتهاك الأعراض في مناطق الصراع. في مناطق الصراع المباشر لا يفكر الإنسان في الانتماء التاريخي ولا القومي ولا حتى في نتائج ما بعد الحرب. من يرى الموت بعينه والأشلاء أمامه يفكر فقط في البقاء ويؤيد من يعرض عليه الحماية أو على الأقل الإغاثة ولو كان عفريتاً خرج من قاع الأرض.
المحاصر في الموصل يتعلق بمن يعد بحمايته من طائفي يريد قطع رأسه واغتصاب ابنته، ولا يفكر في شريكه في العرق أو المذهب أو التاريخ. المحاصر في حلب ينحاز إلى من يفتح له طريقاًً للتسلل مع عائلته من جحيم البراميل المتفجرة والصواريخ الروسية والميليشيات المذهبية الإيرانية، للهروب إلى منطقة معزولة يحميها جيش حتى لو كان قبل سبعين عاماً يستعمر بلاده.
الاستسلام للحظة، لحظة مواجهة الموت والانتهاك والتعلق بأمل النجاة لها شروطها التي تلغي العلاقات مع كل الغائبين عن تلك اللحظة ولو كانوا أقرب الأقربين. المتفرج المشاهد للأحداث عن بعد يعرف أن الحشود من كل الأطراف تتخاصم على اقتسام العراق وسوريا فيما بعد، ولكن ذلك لا يهم المحاصر المستهدف بالموت والاغتصاب. لذلك يصبح جدل السياسيين والمثقفين والمحللين مجرد ترف عبثي، سواءً حول أطماع تركيا العثمانية أو إيران الكسروية أو أمريكا التفتيتية أو روسيا القيصرية، ومن قدماه في النار غير الذي قدماه في الماء البارد.
على العرب سنة وشيعة أن يخرسوا عن الكلام في النوايا طالما هم مجرد متفرجين على مذابح إخوانهم وأشباههم في العرق والمذهب والتاريخ.