م. خالد إبراهيم الحجي
إنَّ الثقافات التي ترتبط بالعادات والتقاليد والأعراف المتوارثة تقاوم التغيير ولكن مع مرور الزمن تصبح مضطرة إلى قبول التغيير التدريجي البطئ الذي يفرضه التطور على واقع المجتمعات المختلفة، وذلك لوجود فريقين في كل مجتمع:
الأول: التقليديون: المرتبطون بالعادات والتقاليد والأعراف والثقافات الاجتماعية المتوارثة، ويتمسكون بكل قديم ويحاربون كل تجديد ويقاومون كل تغيير في المجتمع، بل يصل إلى رفضهم تطبيق التكنولوجيا الحديثة التي تسهم في التقدم والتطور في المجتمع، وهؤلاء على حق ولهم أهمية قصوى من الناحية النظرية في المحافظة على بقاء العادات والتقاليد الأصيلة النافعة، وحماية المجتمع من التشويش النفسي والفوضى الاجتماعية المتولدة عن التغيير العشوائي الذي يضر بالمجتمع. ومقاومة التغيير في المجتمع تأتي دائمًا من التقليديين الذين يمتلكون قوة مؤثرة في المجتمع، ويفضلون الإبقاء على أنماطهم الثقافية المريحة لهم التي ألفوها لمدة طويلة على استبدالها بالجديد الذي ينفع المجتمع ويفيده؛ لأن السلوكيات النمطية المعتادة توفر لهم الأمن النفسي من المخاطر المخفية، الكامنة في عملية التغيير والتجديد والتطوير الذي يواجهونه ويقفون ضده، ويدافعون بضراوة شديدة عن مواقفهم، ويجدون في التدين الدعم الروحاني والمساندة المعنوية والتبرير الأخلاقي للاستمرار والمحافظة على التمسك بالطرق التقليدية القديمة، ولكن عند مناقشتهم عن أهمية الانفتاح والتغيير والتجديد والتطوير وتطبيق العلوم التقنية والتكنولوجيا الحديثة يجانبهم الصواب ويبتعدون عن الحق؛ لأنهم يدافعون عن مواقفهم بحجج واهية وغير مقنعة تتهافت أمام الواقع، ولا تصمد مع متطلبات المجتمع الملحة التي تفرض نفسها في الوقت الراهن. وبعضهم يرفض المكاسب الثقافيّة التي تضيف جديدًا للمجتمع، ولا يترددون عن استخدام الاقتباسات الجزئية علاوة على إخلال البعض منهم بأمانة النقل عن الأئمة والعلماء المرموقين، أو لوي عنق النص الديني ليوافق وجهة نظره ويدلل على صحة رأيه، ويوهم الناس أن فكره ينطلق من الأصلين الكتاب والسنة.
والفريق الثاني: المنفتحون: الذين يسعون إلى التغيير والتطوير والتجديد، وتطبيق الأفكار والثقافات المبتكرة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة التي تنفع المجتمع وتفيده وترتقي به. وكل فريق يمثل قوة ديناميكية تعمل ضد الفريق الآخر في اتجاه معاكس وتقاومه، ويعيشان معًا جنبًا إلى جنب في وقتٍ واحد داخل المجتمع. ونتيجة للصراع بين الفريقين السابقين يحدث بعض التغيير التدريجي والفكري والثقافي في العادات والتقاليد والأعراف المتوارثة؛ بسبب التقدم والتطور والتكنولوجيا الحديثة التي تفرض نفسها على أرض الواقع، لتحل محل الموروث الفكري والثقافي القديم. والتغيير والتجديد والتطوير يمكن أن يكون في كلٍ من المجالين التاليين، المجال الأول: الفكري والعقائدي، مثل:
(1): عمل المرأة في مجلس الشورى جنبًا إلى جنب مع الرجل، للمشاركة في صياغة الأنظمة وتشريعات القوانين التي تمس النساء شقائق الرجال وارتباط أدوار الرجال والنساء التي يصعب فصلها عن بعضها البعض.
(2): ومن هذه الأدوار المترابطة وضع تنظيمات خاصة لعمل المرأة في قطاع الصناعة والخدمات المدنية جنبًا إلى جنب مع الرجل وقت السلم لسد الحاجة والعجز في الأيدي العاملة عند ذهاب الرجال إلى الجهاد في الحرب تلبية لأمر ولي الأمر.
(3): كما يندب مشاركة النساء في القتال لتمريض الرجال.. المجال الثاني: العلوم التطبيقية والتكنولوجية الحديثة، مثل: المنظفات والكيماويات والأجهزة الكهربائية والإلكترونية والمعدات الثقيلة ووسائل المواصلات والاتصالات، ومصادر الطاقة، ومن أمثلة التغيير التدريجي في الأنماط الثقافية القديمة التي حلت محلها أنماط جديدة:
(1): التناقص السريع في الحرف اليدوية مثل صناعة الألياف والخوصيات وبيوت الشعر وصناعة دبغ الجلود والفخار وقوارب الصيد الخشبية والسيوف فجميع هذه الحرف البدائية تركتها الأجيال الصاعدة واتجهت إلى الصناعات الحديثة المعاصرة البديلة لها، مثل: البلاستيك والخزفيات والمعادن.
(2): ومن التغييرات التدريجية أيضًا ترك الأجيال الصاعدة تعلم كيفية رعاية الإبل والخيول التي كانت وسيلة المواصلات الأساسية في الماضي، والاتجاه في الوقت الحاضر إلى تعلم قيادة السيارات التي حلت محلها ومعرفة الكثير عن إكسسواراتها ومتطلباتها حسب التغيير والتجديد والتطوير الذي يفرضه الواقع. والتغيير والتجديد والتطوير يتم من خلال العمليتين التاليتين:
العملية الأولى: التأثير والتأثر (التثاقف) بسبب الابتعاث والهجرة والسياحة والانفتاح على الثقافات الأخرى عن طريق الفضائيات والإنترنت وهو الذي يعرف بالتثاقف الأحادي الجانب؛ أي التأثر من طرف واحد، ومظاهر التثاقف يمكن مشاهدتها في نماذج عديدة منها: تقليد الشباب في بعض قصات الشعر والجري وراء الموضة ولبس الملابس الغربية على نمط الملابس العسكرية، والاحتفال بعيد الحب وعيد الأم، وظهور السينما والمسرح في الدول العربية، ومن مظاهر الجمع بين الأصالة والمعاصرة والتأثير والتأثر في السلوك احترام الراية في الإسلام، اقتداءً بجعفر الطيار الذي رفض التخلي عنها رغم قطع يديه في غزوة مؤته، ثم جاء التنظيم الإداري المعاصر وأكَّد هذا التقدير عندما جعل الوقوف أمام العلم وترديد النشيد الوطني مع عزف السلام الملكي رمزًا لاحترام العلم وتقديرًا للوطن.
العملية الثانية: التأثير والتأثر (الانتشار) بانتقال الأفكار الجديدة التي تُغير وجهات النظر السائدة عند الناس وانطباعاتهم في الحياة، وانتشارها من بيئةٍ إلى أخرى فتُحْدِث الأنماط الثقافية المعاصرة تغييرًا عندما تنتشر وتحل محل الأنماط الثقافية التقليدية في المجتمع. فيفرض الواقع الجديد نفسه ويصبح قوة ضاغطة تجبر التقليديين على تغيير طرقهم المعتادة، وعندما ينتقل شكل من الأنماط الثقافية الجديدة من بيئة إلى أخرى ربما يتغير معناه أو مدلوله أو وظيفته الثقافية عن مكانها الأصلي، كالتالي:
(1) نظام مكبرات الصوت في الدول المصنعة يُستخدم في الغالب داخل المباني المغلقة بدرجاتٍ صوتيةٍ محسوبة بدقة وفق المعايير الهندسية العالمية، لتتناسب درجة الصوت مع فضاء المبنى ومقدار ارتداد الصدى داخله التي تضمن سماع الأصوات المرتفعة بشكل مريح ومناسب لعدد الحاضرين. بينما في المجتمعات الإسلامية، وفي المجتمع السعودي على وجه الخصوص نجد أن مكبرات الصوت تُستخدم بكثرةٍ داخل المساجد، وخارجها بأعلى درجات الصوت لإيصال نداء الصلاة إلى جيران المسجد المحيطين به والحي بأكمله، أو إيصاله إلى أبعد مسافة خارج المسجد بقدر ما تستطيعه قوة المايكرفونات، قد تصل إلى عدة كيلومترات بعد المسجد، وفي كثيرٍ من الأحيان تتداخل الأصوات المرتفعة، وتختلط التلاوات القرآنية بين أئمة المساجد القريبة من بعضها البعض فيُربك هذا التداخل والاختلاط عملية الإنصات عند المصليين أو المستمعيين.
(2): قد تظل الوظيفة ثابتة ويحدث التغيير عند انتقالها إلى المجتمع الجديد في المستخدم لها نتيجة الموروث الثقافي، والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع الجديد مثل قيادة السيارة التي يقودها الرجل والمرأة في جميع دول العالم على حدٍ سواء، بينما في السعودية يقودها الرجل فقط، وتنفرد بكونها البلد الوحيد الذي تمنع النساء من قيادة السيارات.
الخلاصة:
إن الأنماط الثقافية التقليدية في حالة تصادم دائم مع الواقع المتجدد الذي نعيشه ولن تصمد أمام عمليات التأثير والتأثر (التثاقف والانتشار، الديناميكية الضاغطة التي تنتج التغيير التدريجي النافع والمفيد للمجتمع وتفرض نفسها على أرض الواقع.