تشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من ثلث الغذاء الذي ينتجه العالم سنويًّا (نحو 1.3 مليار طن) يذهب سدى، أو ينتهي مصيره بكل بساطة إلى صناديق القمامة، بما لذلك من دلالة على أن توافر الغذاء بات لدى البعض من المسلَّمات، في الوقت الذي لا يعي فيه - للأسف - كثيرون حول العالم أن الغذاء - وفي أبسط أشكاله - هو سلعة أقل ما يمكن أن توصف به أنها «ثمينة» لنحو 800 مليون شخص؛ يعانون الفقر والجوع في مناطق متفرقة من العالم.
وربما يجهل كثيرون أن من بين كل تسعة أشخاص هناك شخص يعاني من أجل الحصول على وجبة واحدة، تساعده على التشبث بالحياة، وأن 800 مليون إنسان يبيتون كل يوم جوعى، وقد لا يلتفت كثير إلى معاناتهم اليومية.
وما يدعو للأسى أن تلك الحالة من عدم الاكتراث لا يتحمل تبعاتها سوى الأطفال؛ فهناك خمسة ملايين طفل يلقون حتفهم كل عام بسبب المرض، وغالبية تلك الوفيات تعود في الأساس إلى سوء التغذية. بل إن ما يضاعف من مرارة هذا الواقع الصادم أن العالم ينتج من الغذاء ما يفوق ما يمكن أن يطعم كل البشر مجتمعين، بل يكفي أن نعرف أن حجم الفاقد من الغذاء كل عام يزيد على نصف إنتاج العالم سنويًّا من محاصيل الحبوب.
وعلى الرغم من ذلك، يوصف الجوع بأنه «أكبر مشكلات العالم التي يمكن حلها»، وربما يكون هذا الوصف دقيقًا إلى حد بعيد؛ فنحن لا نحتاج إلى قفزات نوعية في مجال التكنولوجيا الحيوية، أو نجاحات باهرة في الهندسة الوراثية للتغلب على مشكلة الجوع، بل إن جل ما نحتاج إليه هو فقط بذل مزيد من الجهد.
فالقضاء على شبح الجوع يتطلب أن نتعاطى مع المشكلة من منظور آخر بتعاطفنا مع ضحاياه، وبذل قصارى جهدنا لتخليصهم من تلك المعاناة.
وقد كان لي شرف العمل عن قرب مع كثير من ذوي القلوب الكبيرة: من مسؤولي إغاثة إلى فاعلي الخير والمتبرعين، ورواد العمل الاجتماعي، والأطباء وأطقم التمريض، وأصحاب حملات التبرعات، ورموز عديدة بارزة في مجال العمل الإنساني، ووجدت بينهم أبطالاً حقيقيين؛ يستحقون كل الإشادة والعرفان.
ومع أن كل هؤلاء أناس لا يمكن أن نوفيهم حقهم من التقدير والثناء، إلا أنني أؤمن أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، هو صاحب التأثير الأكبر في ساحة العمل الإنساني العالمي؛ فمن خلال التعاون الذي جمعني بمؤسسات خيرية وإنسانية عالمية كبرى لمست عن قرب الأثر الإيجابي البالغ الذي تحدثه إسهاماته في هذا المجال، مع إصرار سموه على توفير مختلف أوجه الدعم بصورة عملية وفعالة، وبقلب كبير، يتسع لكل ذي حاجة.
وأذكر أنه في العام 2014، وفي أعقاب القصف الإسرائيلي الغاشم لقطاع غزة، وما خلفه من دمار وخراب، كان أهل القطاع في أشد الحاجة إلى يد المساعدة، وكان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أول من بادر بالتوجيه بإرسال مساعدات عاجلة لنجدة أهل القطاع؛ إذ أمر سموه بمد جسر جوي عاجل لنقل المعونات من «المدينة العالمية للخدمات الإنسانية» في دبي إلى العاصمة الأردنية عمان، ومن ثم شحن الغذاء ومواد الإغاثة، بالتعاون مع وكالة غوث اللاجئين «الأونروا»، إلى سكان القطاع المضارين من جراء الاعتداء الآثم، دون تأخير وتسويف؛ فقد أدرك سموه آنذاك أن الموقف يتطلب تحركًا حاسمًا وسريعًا، وقد كان. وقبل أسابيع قليلة أمر سموه بتوجيه معونات عاجلة إلى لاجئي جنوب السودان في المنطقة الحدودية مع أوغندا، لإغاثة الفارين من المواجهات المسلحة في الجنوب.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون «المدينة العالمية للخدمات الإنسانية» وليدة أفكار الشيخ محمد بن راشد، وهي الفكرة التي تحولت الآن بفضل دعم ورعاية سموه وتشجيعه المستمر إلى أكبر مركز عالمي للمساعدات الإنسانية؛ لتقوم المدينة على مدار سنوات بأدوار رئيسة في الاستجابة العاجلة، وتقديم العون للمناطق المنكوبة من جراء الكوارث الطبيعية أو تلك التي من صنع الإنسان، وأذكر منها - على سبيل المثال - مناطق في باكستان، ونيبال، وهايتي، واليونان، والسودان، وغيرها؛ ليقدم بذلك صاحب السمو نموذجًا نادرًا للقائد الذي يولي عناية واهتمامًا بالغَين لدعم جهود الإغاثة الدولية، وإعانة الناس في مختلف بقاع الأرض في أوقات الشدائد والملمات.
وعلى الرغم من عطائه الدائم الذي لا ينقطع لأهله وشعبه إلا أن الشيخ محمد بن راشد يظل دائمًا مشغولاً بالكيفية التي يمكن من خلالها الوقوف إلى جانب المجتمعات الأقل حظًّا في عالمنا، وكيفية الاستفادة من التقدم الكبير الذي أحرزته دولة الإمارات في شتى المجالات، لمساعدة إخوة لنا في الإنسانية؛ إذ إن عطاءه الجزيل لا يعرف حدودًا جغرافية أو سياسية، ولا يلقي بالاً لفوارق عرقية أو دينية؛ فالجميع بشر؛ يستحقون العون الذي لا يتوانى سموه في تقديمه لهم بكل الحب، وكلما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وعطاء الشيخ محمد بن راشد هو في واقع الأمر امتداد لنهج أرسى أسسه الآباء المؤسسون، وقيم نبيلة غرسها رعيل الأوائل في نفوس أبناء الإمارات. فقد كان المغفور له - بإذن الله تعالى - الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيب الله ثراه - رمزًا شامخًا من رموز العمل الإنساني، وكان له أياد بيضاء عديدة، وإسهامات خيرية في مناطق شتى من العالم، مانحًا بذلك دولة الإمارات مكانة رفيعة في مقدمة الدول الراعية للعمل الخيري على الصعيد العالمي. واليوم نرى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وهو يسير على الدرب ذاته، مؤكدًا أن دولة الإمارات كانت - وستظل - النموذج والقدوة في مجال العمل الخيري والإنساني، والمثال المحتذى في إعلاء القيم الإسلامية الرفيعة، وإحياء التقاليد العربية الأصيلة التي طالما أكدت مبادئ التآخي والتعاون والتكافل بين الناس.
ففلسفة الشيخ محمد بن راشد في العطاء تتخطى مجرد توفير المأكل والمأوى، لكنها تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير؛ فقد أدرك سموه أن الفقر ما هو إلا عرض لداء أكبر وأخطر، يكمن في تراجع معدلات التنمية، بما لذلك من انعكاسات سلبية جسيمة على فرص التعليم، والتمكين الاجتماعي، والأمن، والأهم من ذلك مفهوم القيادة والحوكمة الرشيدة؛ لذا جاءت مؤسسة «مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية» عند تشكيلها العام الماضي بآمال عريضة للمساهمة في معالجة المحصلة النهائية لتلك المشكلات، وهي الفقر والحرمان.
فتلك المؤسسة الشاملة - بما تشمله تحت لوائها من مبادرات مهمة - تهدف إلى توفير فرص التعليم لنحو 20 مليون طفل، واستثمار ما يناهز ملياري درهم في تأسيس مراكز للأبحاث الطبية والمستشفيات في المنطقة، إضافة إلى ضخ 500 مليون درهم في جهد يرمي إلى التوصل لحلول جذرية لمشكلة شح المياه الصالحة للشرب. وتوازيًا مع ذلك تتضمن أهداف المبادرات كذلك تدريب الكوادر الشابة لتخريج جيل ذي كفاءة وقادر على أعمال قواعد الحوكمة الرشيدة في مجتمعه، كذلك تأسيس حاضنات يمكن للشباب المبدع والعلماء والباحثين العمل من خلالها للتوصل إلى حلول ناجعة ومتميزة للمشكلات التي تعترض طريق التنمية في المجتمعات.
فالطموحات والآمال التي تعمل المؤسسة على إحرازها عظيمة وكبيرة، وهكذا دائمًا الأمر مع كل المبادرات التي تحمل توقيع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، والتي تتميز جميعها برجاحة الفكر وسداد الرؤية ورفعة القيمة ونبل المقصد؛ إذ تبني المؤسسة على الإنجازات التي قادها سموه في مجال العمل الإنساني، والتي شملت حتى الآن توفير الطعام والماء الصالح للشرب والتعليم والرعاية الصحية ومتطلبات الحياة الأساسية لمجتمعات أقل حظًّا في مختلف أنحاء العالم. وشمل ذلك علاج نحو 23 مليون مريض لتجنيبهم الإصابة بالعمى، وتقديم العون لنحو مليون ونصف المليون أسرة في 40 دولة، كذلك توفير المياه الصالحة للشرب إلى نحو «6.5» مليون شخص.
وقد أسهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بدور رئيس في ترسيخ مكانة دولة الإمارات في صدارة الدول المانحة للمساعدات التنموية بأكثر من «1.3» في المئة من إجمالي ناتجها المحلي، قامت بضخها في قنوات العمل الإنساني والمساعدات الخارجية لأكثر من 100 دولة حول العالم، بإجمالي يفوق خمسة مليارات درهم من بلد لا يتعدى تعداد سكانه ثمانية ملايين شخص.
وأعتقد أن أكثر ما يميز صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، كرمز من رموز العمل الإنساني العالمي، هو حرصه على معالجة حالات الأزمات الإنسانية على مستويين: أولهما التحرك الفوري والاستجابة العاجلة للتخفيف من معاناة الناس، وثانيهما وضع حلول استراتيجية فعالة لمعالجة الجذور المتسببة في الأزمة بهدف القضاء عليها، أو على الأقل تحييدها والتخفيف من أثرها الدائم.
إن المبادرات التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ستبقى نموذجًا يحتذى لما يمكن القيام به إذا ما توافرت لدى قيادات العالم الرغبة الحقيقية والعزيمة الصادقة على إحداث التغيير المنشود في واقع المجتمعات الأقل حظًّا؛ إذ يمكننا آنذاك تحقيق الحلم الذي طالما راودنا في القضاء على الجوع والفقر.
وفي هذه الأيام، ومع إحياء العالم لمناسبة «يوم الغذاء العالمي»، ربما يكون الوقت قد حان كي نمنح جانبًا من اهتمامنا لهؤلاء الجوعى الذين يقارب عددهم المليار شخص، وأن نفكر في معاناتهم اليومية مع المرض والعطش والجوع، وأن نمعن النظر في السبل التي يمكننا بها رفع المعاناة عن كاهلهم؛ كي نبدل عبوس الألم ببسمة أمل، وأن نعيد إليهم من جديد الرغبة في الحياة. فمن يعيش على أرض الإمارات لا يحتاج للنظر بعيدًا كي يجد مصدر الإلهام الذي يعينه على تحديد الطريقة التي يمكن أن يشارك بها صنع عالم جديد، يتبدد فيه الخوف من شبح الجوع.