د. خالد محمد الصغِّير
(بكل سرور، ولكن كم بتدفعون لي؟ أنا بحاجة قبل أن أعطي موافقتي على تكليفي بهذا العمل أن أعرف العائد المادي المترتب على مشاركتي فيه، فوقتي، وجهدي، وفكري ليس بالمجان). مثل هذه العبارات لم تكن تتردد مسبقاً في ردهات كليات جامعاتنا، ولكن بات اليوم صداها يعلوا مجلجلاً في كل مرة تتقدم كليات جامعاتنا بالطلب من أعضاء هيئة التدريس عرض رؤاهم العلمية في موضوع يحال إليهم سواء من إدارة الكلية التي يعملون بها، أو إدارة الجامعة التي ينتمون إليها، أو حتى بطلب من مؤسسات الدولة عامها وخاصها. فهل ذلك يوحي بتحول نوعي بحكم التطورات المعيشية المحيطة المتزامنة مع مستحقات المرحلة الحالية؟ أو أن ذلك مرده إلى صعود سقف المهنية التي تتطلب دقة، ومزيداً من البحث والدراسة، وبذل الجهد المضاعف في القضية المنظورة والذي لا يمكن أن يتأتى بدون وجود حافز مادي قوي يبعث على الإتقان والإجادة؟ أو أن ذلك الموقف أزلي، ولكنه برز مؤخراً بشكل لافت؟ جملة التساؤلات هذه ستكون مدار النقاش في هذه المقالة التي تتناول قضية باتت بارزة للمتابع عن قرب لمشهد التعليم العالي لدينا.
ظاهرة العزوف عن تقديم الرؤى والمشورة الأكاديمية من غير عائد مادي ظاهرة قديمة جديدة، ولكن بروزها في الوقت الراهن بشكل لافت جعل البعض يضعها في خانة الأمر المستجد الذي لم يكن إلى وقت قريب متواجداً في باحات التعليم العالي السعودي. ويمكن إرجاع هذا المنحى القديم الجديد - إن جاز تسميته بذلك - إلى مستجدات برزت مؤخراً على ساحة العمل الجامعي السعودي، وكذلك بسبب تزايد في الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتق الأستاذ الجامعي.
يلحظ المتابع أن هناك توسعا هائلا في العمل الجامعي بسبب تزايد أعداد الطلاب من جانب، وبسبب ارتفاع نسبة المسؤوليات المناطة بالجامعات تجاه المجتمع ومؤسساته، وبخاصة مؤسسات الدولة من جانب آخر. فتزايد أعداد المنتسبين للتعليم العالي في السنوات الأخيرة من الجنسين مرات عديدة جعل الكليات الجامعية تصرف جُلّ جهدها ووقتها للتجاوب مع احتياجاتهم، وتلبية مطالبهم، والبحث الدائم عن إيجاد بيئة تعليمية مناسبة لهم، وذلك كله قلّل من وجود الوقت الكافي لدى الكادر الأكاديمي العامل في الكليات لقبول أعمال إضافية كتلك التي يؤدونها وهي بمثابة جزء من ممارسة عملهم الأكاديمي المعتاد والمتوقع منهم. والأمر نفسه يسري على الجامعات التي زاد التوسع فيها من أعبائها ومسؤولياتها التي هي بحاجة إلى تقديهما للمنتسبين إليها، وجعل عليها أيضاً لزاماً التجاوب مع ما يرد إليها من مؤسسات الدولة، وربما القطاعات والمؤسسات الخاصة التي ما تفتأ عن مخاطباتها للاستنارة تارة برأي ومشورة كادرها الأكاديمي، وتارة بطلب الاستعانة بما لديها من خبرات وإمكانيات لتسديد قضية هنا، وموضوع هناك يحتاج إلى تدخل عاجل. وليس لها من خيار إلا تحويل ما يرد إليها منها إلى الكليات طالبة أن يطلع منسوبوها على ما يرد إليها والرد عليه، أو الاستجابة بطلب تلك الجهات الاستعانة بما لديها من أساتذة مما يعني مزيدا من العبء الناتج عن كم العمل الوارد إلى الكليات وذلك بسبب رحيل العديد من الأساتذة إلى جهات حكومية وغير حكومية للعمل لديها.
وضاعف من تزايد النغمة القديمة الجديدة أن البحث عن المشورة المتخصصة دفع المؤسسات العامة والخاصة اللجوء إلى أصحاب الكفاءة العلمية والخبرة الميدانية طلباً لرأيهم الأكاديمي المبني على علم متخصص، وربما خبرة ميدانية عريضة بمقابل مادي مجزِ مما أوجد لدى العديد من أساتذة الجامعات ثقافة تعاط جديدة أضحوا معها ينأون بأنفسهم عن أية عمل غير مدفوع الثمن حتى ولو كان سيسهم في الرفع من قدر كلياتهم التي ينتمون إليها.
ويبدوا أن موقف الأستاذ الجامعي نفسه، وسياسة الجامعات أذكت ودفعت بتوسيع مساحة تواجد هذه الممارسة الأكاديمية الآخذة في التزايد يوماً بعد آخر. الأستاذ الجامعي بنظرته المادية التي يشوبها شيء من القصور جعلته يحجم عن الإقدام عن تقديم ما يخدم كليته في المقام الأول، وربما مجتمعه بسبب رفضه وضع إمكانياته وقدراته في القيام بمهمة ما ربما تسهم أولاً في النهوض درجات عليا بالكلية التي ينتمي إليها، وتقود ثانياً نحو إثراء وتطوير مؤسسات دولته. وهذا الموقف لاشك يترك انعكاساً سلبياً؛ لأن باعث الحراك وربانه في تطور المؤسسات التعليمية ومؤسسات الدولة، ومنطلق الإنتاج العلمي والفكري في المؤسسة الجامعية أرتئ عدم المساهمة في فكره وعلمه وخبرته دورا ملموسا إلاّ من خلال عائد مادي يحدد له سلفاً.
ومن جانب آخر نجد أن الجامعات أيضاً لها إسهام في تكريس هذه الممارسة الأكاديمية في ظل غياب التنسيق، والترشيد، وعدم وجود مراكز متخصصة، وقصور في النظرة الاحترافية المتزامنة مع استحقاقات الفترة الحالية، وعدم السعي لإيجاد سبل يتم من خلالها منح مكافأة معنوية ومادية للمجتهد الذي يقدم رؤى نيرة تجاه المسألة المطروحة للبحث والدراسة.
يلحظ المتابع أن الجامعات ما أن يتوارد إلى فكرها مشروع ما، أو يرد إليها طلب من جهة ما إلاّ وتحيله إلى الكليات طالبة منها عرضه على الأساتذة ومن ثم موافاتها برؤاهم وأفكارهم من دون الأخذ في الحسبان المسؤوليات المناطة بالكادر الأكاديمي، ومسألة التخصص فكل الكليات يصلها نفس الطلب في الوقت نفسه، ونجدها كذلك تغفل أمر التنسيق والترتيب المسبق، وإعطاء قدر كاف من الوقت للنظر والبحث في الأمر المطلوب ومن هنا نجدها تبادر بمخاطبة الكليات للنظر في مشاريع ضخمة يتطلب البت فيها وقتاَ ليس باليسر ومع ذلك توعز للكليات موافاتها بالنتيجة خلال أيام معدودة. ويأتي في هذا السياق أيضاً عدم وجود التنسيق فكل إدارة من إدارات الجامعات تقوم بمخاطبة الكليات دون الترتيب والتنسيق المسبق مع مثيلاتها. وذلك أيضاً يمكن رده إلى قصور في فهم متطلبات المرحلة التي نعيش اليوم لحظاتها والتي يأتي على رأسها الاحترافية التي تتطلب السعي فقط للمتخصص، ومنحه صلاحية كاملة، ومده بكل الإمكانيات المتاحة، وإعطاءه وقت كاف، ومكافأته على وقته وجهده وبقدر مكانته العلمية بسخاء، وغياب ذلك عن مشهد التكليف بأعمال إضافية يضع جامعاتنا في مصاف من يغرد خارج السرب.
والمخرج من هذه المعضلة الأكاديمية يتوقف على مدى استعداد عضو هيئة التدريس إعادة النظر في موقفه، وكذلك وجود تحول نوعي في تعاطي إدارات الجامعات في محاولة منها للخروج بطريقة مناسبة تقوم فيها بتوظيف قدرات وإمكانيات أعضاء هيئة التدريس من خلال قنوات أكثر تقنيناً، وبشكل يحفظ حقه، ويهيأ له مناخ يمكن أن يعطي فيه من علمه وجهده.
وهذه ليست دعوة ليعمل الأستاذ بمضمون المقولة القديمة «احتسبوا»، ولكنها دعوة إلى النظر في تقديم المصلحة العليا على المصلحة الشخصية. فالكليات التي ينتمي إليها أعضاء هيئة التدريس بحاجة مستمرة إلى التطوير والتجديد وهذا لن يتأتى في ظل عزوف أعضاء هيئة التدريس عن تقديم المشورة والرأي ما لم يتم إعطاؤه مبلغاً من المال نظير تكليفه بعمل يصب في مصلحة الكلية التي ينتمي إليها الأستاذ. فمساهمة الذاتية في الدفع قدماً في كليته يعني تهيئتها بشكل أفضل ليتعلم فيها أبناؤه، وأحفاده، وأبناء عمه، وخاله، وأبناء جيرانه وأبناء المجتمع برمته، وجعل كلياتنا تنتج طلابًا على شيء كبير من الإتقان الفنّي ومن الكمّ المعلوماتي، وكذلك جعلها رائدة في مجال العلم والفكر المتخصص والذي يجني ثمرته في نهاية المطاف المجتمع ويسهم في رقيه درجات عالية في سلم التطور والتحضر بحكم امتلاك الوطن لصروح تعليمية كبيرة تمكنه من احتلال مراتب متقدمة في سلم الركب الأكاديمي.
والجامعات يمكن أن يكون لها أيضاً نصيب في تحجيم تفاقم ظاهرة عزوف أساتذة الجامعات عن المشاركة في تقديم رؤاهم من غير عائد مادي؛ وذلك من خلال السعي أولاً إلى الترشيد؛ إذ يجب ألاّ تتجاوب الجامعات مع كل ما يرد إليها، وإنما تقتصر في ذلك مع تلك التي يكون للمؤسسات التعليمية العالية دور في إعطاء رأي ومشورة علمية، وكذلك هي بحاجة إلى إيجاد مراكز متخصصة تقوم بفحص ودراسة ما يرد إليها كل حسب تخصصه وبمقابل مادي يمكن أن يدع لصاحب الاختصاص الذي قام بتقديم الخدمة الاستشارية المتخصصة. وهي كذلك بحاجة لتبني ما تم الاتيان عليها آنفاً من أمور التنسيق، والترتيب، والتخصص، وإعطاء الوقت الكافي لمن سيسند له دراسة الموضوع المحال.
وهكذا نجد أن الأستاذ الجامعي الذي يتصرف وفق هذا التوجه بحاجة إلى مراجعة حساباته وتغليب جانب المصلحة العليا، والجامعات أيضاً هي بدورها بحاجة إلى رعاية ذراعها الإنتاجية، وتأمين مستلزمات إنتاجهم وفي مقدمتها تأمين الموارد المالية المناسبة حتى يمكن شدهم إلى البقاء والإنتاج في محيطهم الطبيعي. ولعي أتوقف ها لأسوق أمنية أتمنى تحقيقها على أرض الواقع قريباً والمتمثلة في أن نعمل بكل قوانا رغبة في تطويع طاقاتنا المالية لبناء جامعات تفاخر فيها الدنيا بأسرها، وأن يجعل أساتذة الجامعات خيارهم الأول والأخير خدمة جامعاتهم ووطنهم.