إن من محاسن مواقع التواصل الاجتماعي -إن كان فيها حسن- أنها كشفت لنا عن نوازع النفس لدرجة لم نعهدها من قبل، وذلك بالتعرف على أصناف لم يكن ممكنا ولو بذلنا الجهد الجهيد في تحصيل لقائهم، وإن حصل والتقيناهم لم يكن لنا سبر أعماق ما في أعماقهم، وذلك لأن تلكم المواقع منحت الحصانة في التخفي مما مكن كل فرد إخراج ما في داخله ليستوي الداخل بالخارج إلا روادع النفس إن كان لديه رادع، خطرت لي خاطرة أن أخوض تجربة للكشف عن الحد الأدنى لمعيار الشرف، كقانونيين كثيرا ما نردد النزاهة والشرف والجرائم المخلة بهما... إلخ، يقول المفسرون والعلماء أن الله عز وجل لم يعص بذنب كالكبر، وهي معصية إبليس بها ابتدأ واليها انتهى، لم يكن بحاجة مع هكذا معصية لتدرج على أي حال لأنه قد بلغ الغاية ونال بها ما هو أدنى منها!! وقيل أن قابيل حين قتل أخاه هابيل ليستأثر بجمال شقيقته أقليما كان أصله الكبر حيث قال له إنما أنا من حمل الجنة وأنت من حمل الأرض، فكأن لسان حاله يقول ليس مثلك كفأ لمثل شقيقتي، وفي الحديث القدسي «قال الله عز وجل الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار» صحيح مسلم، ولنا افتراض أن هذا أقصى ما يمكن تصوره من انعدام الشرف، ويبقى السؤال ما هو الحد الأدنى؟
قررت أن أبحر في هذا النادي الخضم الذي لا حدود له بأن أخوض تجربة إجراء محاورات جدلية مع عدد من الملاحدة واللاأدرية وعلمانيين وآخرين معتدلين وصولا للمتأسلمين حتى أقصى اليمين من الراديكاليين وأصحاب الانحرافات العقدية، وفئات أخرى كثيرة ليس ضمن ما سبق، على أن يكون اختياري ممن تخفى وراء اسم مستعار حتى يكشف كوامن نفسه، هدفت لمعرفة الحقيقة عارية من التأثيرات الخارجية التي تحد من الاندفاع، والحق أنها تجربة ثرية بحق، ولن أنكر انه ظهرت في بعضهم فضائل ما ظننت أن تظهر من صنف نفسه ضمن فئته، وبالمقابل وجدت رذائل ما تعودنا أن نراها في من التحف بهيئته، ولأن التواصل كان على هيئة حوار جدلي فيه ما فيه من إثبات الذات والانتصار لنفس أو لرأي وانتقاص الآخر أو ازدراء متعمد لتطفح بقدر أسرع وأظهر كوامن النفس وخوافيه. أقول لم أجد من الفضائل في خضم ذلك كالصدق فضيلة ولم أجد كالكذب رذيلة. وجدت من الملاحدة من يستوقفه الصدق -ليس الكثير منهم يفعل- فتعجبت لمثله، ووجدت من المعتدلين من يتحرى الكذب لمجرد الانتصار لرأيه، فكيف لو عاد الكذب عليه بنفع مادي! ووجدت من المتأسلمين من يستجيز التدليس بإخفاء الحقائق انتصارا لمنهجه وفق تصوره وفد تجنب بذلك الكذب الصريح ما أمكن، ووجدت من الادرية من يحرف ويشوش فإذا ما ووجه بحجة لا مفر منها فر وحجب المتابعة. وجميع هذا يطلق عليه مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فكما يعتقد البرغماتي إن تحقيق النفع الشخصي يبيح له الوصول إليها بأي وسيلة فكذا يعتقد المتأسلم أن سلامة المنهج وفق رؤيته تعطيه الحق في الوصول إليه بتعرج وتزلف، يجمعهما مكيافيلية ولا يعلم الأخير أن الله عدل كريم لا يقبل إلا العدل، وأن المنهج قبل الهدف والوسيلة قبل الغاية مطلب لا يقبل العمل إلا به، والله غني عن عباده.
وأنصح هنا أولا بعدم خوض التجربة لمن ينفعل سريعا لان القطيع الملتف حول تلك المعرفات تعطي دعما معنوياً هائلاً وتحدث أثراً نفسيا لداخل خاصة انه يتعرض لمؤثرات مختلفة وينتهي به الأمر من موضوع لآخر ومحاور لثان من غير تحقيق النتيجة المرجوة. كما أذكر ثانياً بأثر لم يثبت صحته عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- «لو اطلع الناس على ما في قلوب البعض، لما تصافحوا إلا بالسيوف». وأثر آخر عن على بن طالب- رضي الله عنه- لم يثبت صحته كذلك «لو تكاشفتم ما تدافنتم» أي لو اطلع الناس على العيوب والسرائر لما رغبوا في دفن صاحبه. وأعود لأذكر ثالثا بأن من مبادئ القضاء والقانون أن من أثر عنه الكذب سقطت عدالته ومنعت شهادته.
إن من الشرف ألا ينتقص من حق غيره وإن خالف، ولا يلجأ إلى الكذب وإن اعتقد سلامة المنهج، وحتماً السباب والشتائم سلاح يلجأ إليه حين تعي بالضعيف السبل، وكما أن التزوير يقع على المحرر والتزييف على ذي مادة، فالكذب محله الكلام كما أن أصل الدين النصوص الشرعية وهما القرآن الكريم والسنة النبوية من جنس الكلام، فكان منطقياً ومتوافقاً أن أجد أشد الأصناف كذباً القرآنيين والطاعنين بالسنة المنتقصين لأحاديث نبيه المشككين فيها. وعكسهم من اشتغل بالنصين ألا وهم صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكنت أخص صفة لصحبة العدالة أي عدم الكذب وأسبابه، ولذا حق لهم حمل وتبليغ رسالته لمن يليهم على أكمل وجه فجمع القرآن ودونت السنة وحفظ دين الله في الأرض، بل وأن أعظم مرتبة بعد النبوة هي الصدقية المشتقة من الصدق (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) المائدة 75، لأن الكذب وإن كان أدنى مراتب الرذيلة فهو منتهى قوادح المروءة والفارق بين الشرف والسقط، الجامع لمهانة النفس ودنو المرتبة وإن علا صاحبها ظناً منه أنه ذو شأن لعوارض الدنيا، وأخطر مراحل السقوط أول دركة كما أن أعظم لحظات السمو أول درجة، وأنظر إلى أدنى مراتب الأمر فهو الطريق إلى منتهاها والسبيل إلى غايتها.