تحدثنا في المقالة السابقة عن حالة التنوع في المجتمع الأمريكي، وكيف أن التمييز أخفى ملامحه داخل مؤسسات الدولة، ولهذا - وبعد فترة طويلة من الكفاح - أصبح همّ المؤسسات هو التخلص من هذا الركام الذي خلفه الأبيض، وانتهينا إلى أن المؤسسات اعتمدت الطريقة الأسرع التي يتساوى فيها غير الأبيض بالأبيض والمتمثلة في تخصيص جزء من الوظائف لهم، هنا نلاحظ أن الحل اتجه مباشرة نحو النتيجة لا السبب، فرق بين أن تتعامل المؤسسات مع السبب وبين أن تتعامل مع النتيجة، هدف الأولى هو القضاء على التمييز، بينما هدف الثانية القضاء على هيمنة الأبيض، في الأولى الأمر يحتاج إلى وقت بينما في الثانية قد تقصر المسافة نحو الهدف، لو افترضنا أن المؤسسات عملت بالفكرة الأولى وهي وقف التمييز ومن ثم جعل الفرص مطروحة للجميع، فقد يكسب الأبيض مرة أخرى تلك الفرص، وعلى هذا فالأمر لن يتغير، التعامل مع النتيجة هو أن يصبح هدف المؤسسة القضاء على هيمنة الأبيض وجعلها للجميع، هنا يصبح الوصول للهدف ممكناً وذلك باستبدال الأبيض بغيره مباشرة، هذا الاستبدال أعيا المؤسسات ولا يزال يعييها بحثاً عن معايير تحقق هدفين متعارضين، هما استبدال اختيار الأبيض مباشرة باختيار غيره مباشرة، أو استبدال الأبيض بالأكفأ والتي قد تعيد سيطرة الأبيض مرة أخرى.
أعوام طويلة والمجتمع الأمريكي - الذي يمثله الأبيض - يرفض الاعتراف بالتنوع، كان العرق الأبيض يرى أنه هو فقط من يمثل المجتمع الأمريكي والحكومة الأمريكية والمؤسسات الأمريكية، البقية ليسوا سوى أشخاص قدموا لاحقاً لأهداف تتعلق بخدمة الأبيض في تحقيق أهدافه وأهداف مؤسساته، التنوع كان بلا حماية، الأسوأ أن مشكلة التنوع لم تكن في أنها لم تجد من الأفراد - البيض - من يحميها، القانون نفسه كان يرفضه والأفراد ليسوا سوى ممتثلين لنص القانون الذي أعطى الأبيض كل شيء، كانوا يرون أن المجتمع الأمريكي يمثله أول القادمين إليه، وليس لمن جاء بعدهم نفس الحق، ولأن أقدام البيض الأوروبيين هي أول من وطئت القارة الأمريكية، فقد نجحوا في السيطرة عليها، فأبادوا سكانها الأصليين وأقصوهم لتصبح القارة الأمريكية قارتهم هم، وفعلوا الفعل نفسه مع من أتى بعدهم، ليس بالإبادة كما فعلوا مع سكانها الأصليين، ولكن بإقصائهم والتمييز ضدهم ومنعهم من حقوقهم، فعانت الأعراق الأخرى الأمرّين بسببهم، المجتمع الأمريكي لم يكن في عُرف الأبيض سوى مجتمع أبيض.
في معادلة التنوع قيمة الماضي تساوي صفراً، القيمة الحقيقة هي للحاضر، بمعنى أن التنوع الذي يجب حمايته هو التنوع الذي يُشكّل وجه وملامح حاضر المجتمع وواقعه، حين ينشأ جيل جديد فإنه ينشأ في مجتمع قد تختلف ملامحه عن ملامح الجيل السابق، ولذا فهو ملتزم بمجتمعه الذي نشأ فيه، وملتزم بأفراد جيله الذين ولدوا ونشأوا معه، وشاركوه تكوين وصياغة ملامح وصفات مجتمعه الذي يعيش فيه وينتمي - مثلهم - إليه، ما حصل في الولايات المتحدة أن الرجل الأبيض - لأكثر من قرنين - ولد ونشأ وعاش في مجتمع متنوع، تنوع في العِرق واللون والدين والجنس، غير أنه استمر وهو يرى أن شكل ولون بلده هو شكله ولونه فقط، وأن أمريكا قبل أربعمائة عام هي أمريكا قبل عدة أعوام، نعم في يوم ما لم يكن لهذه الأعراق وجود، جاء الأوروبيون ولم يكن حينها في هذه الدولة سواهم وسكانها الأصليون، حينها لم يكن لعدد من الفئات وجود، ومن ثم يمكن اعتبارها بأنها الدولة ذات العرقين فقط، يمكن اعتبار شكل التنوع في يوم ما في الولايات المتحدة هكذا، لكن أن يجلب التنوع ثوبه القديم ويُلبسه حاضره فهذا هو الخطأ.
منذ عام 1776م - تاريخ استقلال الدولة - وحتى منتصف القرن الماضي 1959م - تاريخ انضمام آخر ولاية - والولايات تنظم تحت لواء الدولة الأمريكية، إضافة إلى هجرات البشر من كل بقاع الأرض، ولاية تلو ولاية وهجرة تتبعها هجرة رسمت وجهاً جديداً للولايات المتحدة، أعراق مختلفة وثقافات مختلفة وديانات مختلفة، عاش أبناؤها فيها جزءاً لا يمكن عزله في مفهوم الوطن الأمريكي، فالمجتمع في تغير مستمر، وصورة التنوع في تغير مستمر، وما يجب اعتباره من اختلاف بين أفراد المجتمع يختلف من زمن لزمن، المشكلة أن شكل التنوع الذي عرفه الأبيض في الماضي البعيد هو نفسه شكل التنوع الذي دافع عنه حتى الماضي القريب، فأمريكا هي العرق الأوروبي الأبيض، ومهمته حماية هذا العرق، تغيرت الولايات المتحدة وتغير أهلها وما زالت الولايات المتحدة - في عين الأبيض - إلى وقت قريب هي دولة البيض، وعلى هذا فالقانون منهم ولأجلهم حتى غابت العدالة وغاب التنوع.
حين يتغير الجيل ويتغير البشر وتتغير الثقافة ويتغير كل شيء تقريباً في المجتمع، ثم لا يتغير مفهوم التنوع فالتمييز والظلم بلا شك سيصبح نتيجة حتمية، ولهذا حصل ما حصل في الولايات المتحدة من ظلم واستبداد حتى نتج عنها موجات غضب ورفض أدت إلى نشوء صراعات وظهور حركات حقوقية تطالب بإيقاف الظلم وتحقيق العدل والمساواة للجميع، وفعلاً هذه الحركات في نهاية المطاف أثمرت وأدت إلى اعتراف القانون بحقوق الجميع وتنفيذه على أرض الواقع، التنوع شكل يحدد ملامحه حاضر المجتمع، واجب الفرد في مجتمعه أن يحترم طبيعة المجتمع الذي ولد ونشأ فيه، ويعمل ويعيش فيه، واجبه أن يقر بحقيقة الاختلاف وقيمته، التنوع ليس صفة وحسب، هي قيمة ومهمة الفرد إدراك هذه القيمة ومن ثم حمايتها، وأول خطوة نحو إدراكها أن ينظر للتنوع كما هو في حاضر مجتمعه وواقعه وليس كما هو في ماضيه أو كما يريده هو.