إبراهيم عبدالله العمار
أحب تأمُّل صفات الحيوانات، وأرى فيها من العِبَر والأعاجيب التي تجعل لسانك يهتف بتعظيم الخالق ما يتفوق على محاضرات إسلامية كاملة، وقصة قديمة من عصر الجاهلية قرأتها وأنا صغير ولا أنساها، وهي أن قوماً سافروا ذات مرة لمكان بعيد، والسفر في السابق محفوف بالمخاطر، ومنها الضياع إذا لم يرافق الرحالة دليلٌ يهديهم الطريق، وضاع هؤلاء وخشوا على أنفسهم الهلاك، ثم ظهر لهم كلب، وغاب قليلاً وأتى بحيوان ميت اضطروا أن يأكلوه لكيلا يموتوا، وظل الكلب يفعل هذا أياماً، وفي الليل ينام قربهم ليحميهم من سباع الصحراء، وكان أحدهم يذهب كل يوم للمناطق المجاورة يحاول أن يجد أثر طريق يعرفه، وبعد عدة أيام من هذا أبصر أحدهم علامة يعرفها فرجع راكضاً فرحاً لقومه وقال إنه وجد الطريق، فجمعوا متاعهم واستعدت القافلة للذهاب، والتفتوا للكلب وإذا به نائم، فتركوه، ومشت القافلة، وبعد ساعات طويلة من المشي سمعوا نباحه خلفهم، لكن هذه المرة تغير فيه شيء: لا يبدو سعيداً ودوداً كما كان. أخذ الكلب ينبح من بعيد ويرفض الاقتراب منهم، ورأوا أن هذا حزن منه بسبب تركهم له، وظل الكلب يفعل هذا ويرفض الأكل، حتى مات، فتأسفوا على ذلك ونزلوا ودفنوه هناك.
رغم أن الكلب غير محبوب في مجتمعاتنا الإسلامية (اذهب للمالديف مثلاً ولن تجد أي كلب في كل أراضي الدولة، ممنوعة رسمياً) إلا أننا لا نتردد في ضرب المثل في الكلب في الوفاء، وهذه حقيقة لا جدال فيها، والقصة المذكورة ذكرتني بشيء كتبه القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابارت، ذلك أنه لما انتهت إحدى معاركه في إيطاليا لفت انتباهه في ساحة المعركة شيء: كلب قرب جثة جندي. كان الميت صاحب الكلب، ولما رأى جثة مالكه جلس بجانبه يلحس يده. إنه وفاء الكلب، وفاء ضُرِبت به الأمثال في كل مكان وزمان.
دمعت عينا نابليون لما رأى هذا. نعم، بكى القائد المتمرس المتعود على مشاهد القتل والفقدان. لما خسر نابليون معركته الأخيرة ووُضع في منفاه أخذ يكتب، ولم ينسَ ذاك المشهد أبداً، وكتب عنه قائلاً: «فكرتُ في ذاك الجندي القتيل. لا شك أن لديه أصدقاء في موطنه في فرنسا وكذلك في كتيبته، ورغم هذا فقد تركوه كلهم لما مات، إلا كلبه. لقد شاهدتُ بلا تأثُّر معارك قرّرتْ مصائر أمم كاملة، وأعطيت قادتي وجنودي أوامر بوجهٍ جامد، أوامر قَتَلَت آلاف الناس. وها أنا آنذاك في ذلك اليوم، أبكي بسبب حُزن الكلب على صاحبه».