المجتمعات البشريّة بطبيعتها تسير وفق رؤية متوارثة لتقييم مكانة الأفراد المنتمين إليها، بعضها تنطلق في تصنيفها للنّاس من حالة النسب وتؤسس لتسلسلها الهرمي انسجاما مع المرجعية القبليّة، وأخرى تبني هرميّتها استناداً على الثروة الماليّة فتعلي من شأن الغنيّ وتحط من قدر الفقير، وكلتا الرؤيتين ليستا حضاريتين ولا تحققان مبدأ العدالة الاجتماعية.
المجتمعات المدنيّة لا تؤمن بتلك المكتسبات التي تُنسب للمرء منذ الولادة، إِذْ ليس من العدل أن يحظى الفرد بمكانة في مجتمعه لأنه ولد في كنف أسرة ما أو ينتمي لعائلة تنعم بالثراء، هذه المكتسبات لم تأتِ من جهد مبذول أو كفاح شخصي، كما أن الإيمان بها يُنتج حالة من العداء الاجتماعي في ظل غياب مبدأ التنافسيّة بين أفراده، وهو المبدأ الذي تنمو به حضارات الأمم وتحقق من خلاله خطوات وثّابة ذات نمط تنموي يشارك فيه كافّة شرائح المجتمع.
مبدأ العدالة الاجتماعيّة في تقييم الأفراد لا يقف عند حد تحقيق التنافسية الخلاقة، بل يمتد ليمثّل درعاً واقياً تجاه سلوكيّات الازدراء والفوقيّة التي تتسلل إلى البيئات الاجتماعيّة ذات التسلسلات الهرميّة غير العادلة التي تنشئ أرضية محفّزة للأنساق الثقافيّة السلبيّة، وتبدأ في تقسيم المجتمعات إلى غني وفقير ورجل وامرأة وأبيض وأسود، وهي تقسيمات عقيمة وتجهض أي رؤى تجديديّة تقوم على أساس المواطنة والانتماء إلى الأرض.
سلوكيّات الازدراء تلك إن لم تجد من يغذيها سينحسر نفوذها ويبطل مفعول نسقيّتها، أمّا إن ظلت المجتمعات تبارك التقسيمات المجحفة فستستمر الأنساق في نموّها وتفكيكها لحالة السلام والانسجام الاجتماعي، وهذا ما أدركته مبكراً الشريعة الإسلاميّة وتداركته مؤخراً المجتمعات المدنيّة الحديثة وأخذت تسن القوانين الصارمة والعقوبات الرادعة تجاه أي تصرّف عنصري يزدري فرداً من أفراد المجتمع.
حادثة أبي ذر ومؤذن الإسلام بلال عندما قال الرسول للأول «إنك امرؤ فيك جاهليّة» تجسّد خطورة النسقيّة الطبقيّة على بنية المجتمعات، والخطاب الديني المعادي للعنصريّة خفت ضوؤه على الرغم من أهميّة دوره في وأد تلك السلوكيّات الرجعيّة داخل المجتمع المحافظ، والحال كذلك بالنسبة للخطابات الثقافيّة والنقديّة هي الأخرى أغفلت أعمال نظريّاتها في تفكيك رمزيّة العنصريّة، بل إن بعض الأكاديميين ورجال الدين أخذوا يعززون من سطوتها بخضوعهم تحت سلطانها في مناكفاتهم من حين إلى آخر.
السلوكيّات الجاهليّة متجذّرة في ذهنيّة المجتمعات حتى استحالت إلى نمط تفكير لا يكاد ينفصل عن أي سلوك في الحياة اليوميّة، واجتثاثها كلياً مطلب غير واقعي لكن تجريمها وتغليظ العقوبات ضدّها سيسهم في الحدّ من انتشارها، إضافة إلى التصدي لأي تسلسلات هرميّة تنطلق من الأنساق الثقافيّة الرجعيّة، وقبل هذا وذاك بذل الجهود لبناء وعي مجتمعي يؤمن بأن الأفضليّة في المجتمع تُكتسب من خلال التحصيل العلمي والاجتهاد الفردي والرقي الأخلاقي.
- ماجستير في النقد والنظرية