د.عبد الرحمن الحبيب
أثار قانون جاستا مسألة عدالة قانون الحصانة الدبلوماسية، والتساؤل حول أخلاقية منح الدبلوماسي هذه الامتيازات القانونية التي تفضله على بقية الناس؟ فما هي الحصانة الدبلوماسية في القانون الدولي، وما مبرراتها، ومتى ظهرت، وما هي تطبيقاتها في وقتنا الراهن؟
الحصانة الدبلوماسية هي شكل من الامتياز القانوني وسياسة متبعة بين الحكومات تضمن عدم ملاحقة ومحاكمة الدبلوماسيين تحت طائلة قوانين الدولة المضيفة مع حقها في طردهم. تمت المصادقة عليها في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961 من أغلب الدول. ورغم أن العديد من مبادئ الحصانة الدبلوماسية تستمد اعتبارها من الأعراف القانونية إلا أن الاتفاقية تضع لها قواعد ومعايير.
من الناحية الأخلاقية تبدو هذه الحصانة غير عادلة لكن لها مبررات عملية واقعياً، فمنشأ فكرتها هي لمبررين: الأول هو لحماية الدبلوماسيين خاصة في الدول الأضعف من التعرض للضغط والابتزاز أو عرقلة عملهم أو ربما تصفيتهم من الدولة المضيفة ولا سيما خلال فترات التوتر. لذا يأتي المبرر الثاني وهو لمنع سوء التفاهم بين الدول، فالحصانة الدبلوماسية وضعت للحفاظ على العلاقات بين الحكومات أثناء الصعوبات والصراعات المسلحة، لأن كل دولة بحاجة لمعرفة موقف الدولة الأخرى، وأفضل مصدر لذلك هو مبعوثوها الرسميون.
الدولة المضيفة تحترم حصانة الدبلوماسيين لأنّها تتوقع احترام حصانة دبلوماسييها في الدول الأخرى. ومن هنا فإنَّ أمريكا تعد من أكثر البلدان منحاً للحصانة الدبلوماسية لأن بها أكبر عدد دبلوماسيين أجانب ولها أكبر عدد دبلوماسيين في البلدان الأخرى. ومن هنا أيضاً يقال عن قانون جاستا أن أمريكا أكبر المتضررين منه.
الحصانة الدبلوماسية تستمد مفهومها الحديث من نجاحها العملي على امتداد آلاف السنين؛ حيث نجدها في الملاحم الهندية القديمة مثل رامايانا (قبل نحو خمسة آلاف سنة)، عندما أمر الملك الشيطان رافانا بقتل هانومان، وأشار أخ الملك الأصغر فيبهيشانا غاضباً إلى أن الرسل يحرم قتلهم أو اعتقالهم، حسب الممارسات القديمة.
كما سجل المؤرخ اليوناني هيرودوت (ت 425 قبل الميلاد) أنه عندما طالب رسل الملك الفارسي أحشويروش «الأرض والمياه» كرمز لخضوع المدن اليونانية، رماهم الأثينيون في حفرة وألقاهم الاسبرطيون في بئر إشارة إلى أنهم سيجدون كل من الأرض والمياه في قاع البئر. ومع ذلك، فحتى هيرودوت رغم أنه يوناني، عدّ سوء معاملة المبعوثين جريمة، وروى أن الانتقام الإلهي أصاب سبارطة لهذا الفعل المشين.
ولعلنا نتذكر مقولة يزدجرد كسرى فارس عندما احتدم حواره مع وفد المسلمين الذين أرسلهم سعد بن أبي وقاص، قائلاً: «لولا أن الرسل لا تُقتل لقتلتكم، اذهبوا لا شيء لكم عندي..» حتى جنكيز خان والمغول رغم غزواتهم الوحشية كانوا معروفين بإصرارهم على حقوق الرسل، وفي كثير من الأحيان انتقموا بعنف شديد ضد البلدان التي انتهكت هذه الحقوق.
ورغم تعرض الرسل والمبعوثين (الدبلوماسيين) لإساءة معاملة أو قتل فقد نُظر لذلك عبر التاريخ باعتباره انتهاكا صارخاً للشرف. لكن من ناحية أخرى ألا يستغل الدبلوماسيون هذه الحصانة لأمور غير أخلاقية؟ واتفاقية فيينا صريحة أنه «دون المساس بالامتيازات والحصانات، فإنَّ من واجب جميع الأشخاص الذين يتمتعون بالامتيازات والحصانات احترام القوانين والأنظمة المعمول بها في الدولة المستقبلة».
أما الدبلوماسي الذي يستغل هذه الحصانة منتهكاً روح اتفاقية فيينا، فإنَّ حكومته قد تتنازل عن حصانته إذا كانت التهمة جنائية، لكي لا تتشوه سمعتها، وكثيراً ما حصل ذلك. على سبيل المثال، عام 2002، حوكم دبلوماسي كولومبي في لندن بتهمة القتل غير العمد، عندما تنازلت حكومته عن حصانته الدبلوماسية، نتيجة الإحراج من المظاهرات هناك.
لكن قد ترفض حكومة الدبلوماسي التنازل عن حصانته، هنا من حق البلد المضيف طرده مما قد ينهي مستقبله الوظيفي، أو ربما يتعرض لإجراءات تأديبية قاسية أو لمحاكمة صارمة عند عودته إلى بلده إذا كان فعلاً قد اخترق القوانين المحلية للبلد المضيف، وعرض سمعة بلده للإحراج. بل قد يعرض بلده للخطر، مثل اغتيال ضابط شرطة في لندن عام 1984 من قبل شخص داخل السفارة الليبية خلال مظاهرة؛ فقد تسبب الحادث بانهيار العلاقات الدبلوماسية حتى اعترفت ليبيا بتحمل «المسؤولية العامة» في عام 1999. وكان الحادث عاملاً رئيسيا في قرار رئيسة الوزراء تاتشر للسماح لرئيس الولايات المتحدة ريغان لانطلاق القصف الأمريكي على ليبيا عام 1986 من القواعد الأمريكية في بريطانيا.
أحيانا تُنتهك الحصانة الدبلوماسية من البلد المضيف، وأشهر الأمثلة هو انتهاك حرمة بعض السفارات في إيران لعدة مرات. وتعد أزمة الرهائن في إيران أشهر مثال عالمي لانتهاك هذه الحصانة، على الرغم من أن محتجزي الرهائن قد لا يمثلون الدولة رسمياً، إلا أن الدول المضيفة ملزمة بحماية الممتلكات الدبلوماسية والموظفين حسب اتفاقية فيينا.
ستظل العلاقة جدلية بين عدالة قانون الحصانة الدبلوماسية وتطبيقها على أرض الواقع، فهي غير عادلة من جهة لكنها ناجحة عملياً من جهة أخرى.. وإذا كانت السلطات هي التي تصنع القوانين فإنَّ أهم ما يعنيها هو النجاح العملي الذي عليه أيضاً مراعاة أخلاقية المهنة.