عبد الرحمن بن محمد السدحان
اللقاء الأخير مع الفقيد الكبير
لن أنسى ما حييت شموخَ الإيمان ونبوغَ الإنسان وقوةَ الإرادة فـي شخصية غازي - رحمه الله - عبر آخر لقاء لي معه مساء الثاني من شهر رمضان المبارك من عام 1431هـ (2010م)، وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام، وكان يشغل غرفةً ضيقة في عنبر العناية المركزة بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض.
* *
كنتُ قد طلبت من المشرف على مكتبه، الصديق - هزاع العاصمي أن يمكّنَنِي من رؤيته لحظاتٍ، فإن عزّ ذلك، فلن أطمع في أكثر من وقفة قصيرة أمام باب غرفته داعياً له ومستغفراً، وقد تمَّ لي ما تمنيتُ، وخلال لحظات تلت وصولي إلى المستشفى، كنت أقفُ أمام غازي داخل غرفته معقودَ اللسان زائغَ البصر، وقد راعني فـي مشهده ما راعني: ضمور فـي الوجه، وذبول فـي العينين، وسكينة فـي اللسان خلتُها في تلك اللحظة تلخص لي الآثار المريرة لسكرات المرض العنيد!
* *
لم أستطعْ أمام ذلك المشهد المهيب أن أعصمَ لساني عن الكلام تعليقاً على ما رأيت، فقلت له بتلقائية وجدانية حزينة لم أعِدّ لها من قبل أو أحسب حساباً، وأنا أشد يده حرقةً وألماً: (لا تستحق يا غازي كل هذا)!
* *
لم يدعني - رحمه الله - أكملُ البوحَ الحزينَ له بمشاعري، فقاطعني أبو يارا بما يشبه زمجرةَ الأسد الجريح قائلاً بصوته الحنون المعهود: (لا تقل هذا يا عبد الرحمن، فما حلّ بي هو أمر قد قدّره الله ربُّ العالمين)! قلت له وقد ألجمتني عبارته (الوداعية) وأسرتني شجاعتُه وإيمانُه وشدةُ بأسه: (ونعْم بالله)، ثم دعوت له طويلاً فيما كان بصري يجول تائهاً في الفضاء المحيط بي مروراً به بدْءاً ونهاية، أمّا عيناه فما انفكتا تحدَّقان في وجه صديقه المرزوء حزناً إلى جانب سريره، وقد أخذ منه عبء المرض كلَّ مأخذ!
* *
(ودعت) غازي وأنا مشْدُوهٌ بما سمعت ورأيتُ، وردّ لي التحية بمثلها وهو يعتصر ابتسَامة عنيدةً بين شفتيه، وغادرت المكان وقد تلبّسني أحساسٌ غريب بأن ذلك اللقاء ربما كان الأخير مع (مجموعة الإنسان) غازي القصيبي!
* *
بعد ثلاثة أيام تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من صديق مشترك نقل لي من خلاله، نبأ رحيل غازي إلى رحمة الله، كنت يومئذ في جدة مرتبطاً بالعمل، وتعذَّر عليّ الشخوصُ في ذات اليوم إلى الرياض لأدرك صلاة الجنازة عليه والمشاركة في تشييع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير، وقد شعرت في تلك الوقفة المهيبة والفريدة في حياتي أن صفحةً مشرقة من تاريخ بلادي قد طُوِيتْ برحيله إلى دنيا الخلود، لَيلْحقَ بركب الصالحين في روض من رياض الجنة - بإذن الله -!
رحمه الله رحمة الأبرار!