مها محمد الشريف
التحولات الراهنة على الساحة السياسية والاقتصادية تعكس تكاليف جديدة تزداد حذراً كلما تضاعفت الآثار الناجمة عن خسائر ما بعد النفط، بدءاً من خذلان الدول الصديقة أو تهربها من مسؤوليتها تجاة حلفائها، وصولا إلى سعيها لخلق مواجهات تنحت في جدار التاريخ الإنساني بطلاسم غير مفهومة بين الدول، لتتحول الخطط الإستراتيجية إلى مسار آخر ومصالح مختلفة مع حلفاء جدد.
لم يعد خافيا الاتفاق الذي وقعته السعودية مع الصين، إذ دخل حيز التنفيذ في 26 سبتمبر/أيلول الماضي، وبناء عليه تتم بموجبه التعاملات التجارية بين البلدين بـ"اليوان" الصيني و"الريال" السعودي. حيث تعد الصين أكبر شريك تجاري للسعودية، بحجم تبادل تجاري 49.2 مليار دولار، تشكل 13% من العلاقات التجارية بين السعودية ودول العالم في نفس الفترة.
ولو نظرنا الى حجم التبادل التجاري بين المملكة والصين لوجدنا أن الصين أكبر مستورد للنفط السعودي في العالم، بما يتجاوز 1.1 مليون برميل يوميا، بنسبة تقترب من 15% من صادرات النفط السعودية للعالم إجمالاً.
وبلغت صادرات السعودية للصين 24.55 مليار دولار في 2015، مقابل واردات للرياض من بكين بـ24.64 مليار دولار، وفق أرقام رسمية سعودية.
إن قوة الاقتصاد الصيني الذي يحل ثانيا بعد الولايات المتحدة، وسط توقعات صندوق النقد الدولي أن يحتل المركز الأول عالميا في وقت قريب، جعل من الصين رقما صعبا في عالم الاقتصاد؛ بل أن تلك القوة الإنتاجية الخارقة فتحت المجال أمام الثقافة الصينية للانتشار؛بعد أن كان المجتمع الصيني منكفئا على نفسه آلاف السنوات، إذ تشير الدراسات إلى أن الصينيين ظلوا يقطنون نفس الأرض ولم يغادروها إلى غيرها طيلة أكثر من عشرة آلاف سنة وهذا ما عزز في مجتمعهم التقيد بالتقاليد والثقافات التي توارثوها عن الأجداد، لكن الغزو الاقتصادي الصيني الذي اجتاح العالم بدأ في تحرير المجتمع الصيني من حالة الانغلاق الثقافي، إذ تشير دراسة لرصد أكثر اللغات المستخدمة على شبكة الإنترنت إلى أن اللغة الصينية قفزت في السنوات الأخيرة وتجاوزت اللغة اليابانية لتحتل المركز الثاني بعد اللغة الإنجليزية بفارق 3% فقط.
ومع هذا التقدم الثقافي الذي كسر الكثير من القيود الاجتماعية بفضل قوة الاقتصاد الصيني، نجد أن الصين مازالت بحاجة إلى الكثير لتكريس ثقافتها ولغتها على مساحات أوسع، وهذا ما تسعى له الحكومة الصينية بخطوات متسارعة، إذ اجتاحت موجة تعلم اللغة الصينية الكثير من المدارس في جميع أنحاء العالم واعتمدت 30 ولاية أمريكية تدريس "المندرين" وهي اللغة الرسمية في الصين بعد الإقبال الواسع على تعلمها،إذ يرى مختصون أن تعلم الصينية قد يكون مفتاح الحصول على أفضل المهن في المستقبل وفرصة للتناغم مع الثورة الصناعية والتكنولوجية التي تقودها الصين لتحتل المركز الأول عالميا في قدرتها على التأثير وتحريك عجلة الاقتصاد العالمي.
لذا نحن أمام منجز حضاري صيني قوي فالحضارات القديمة لها إسهامات عظيمة في تثقيف الفرد واستقلال كيانه وهويته وثقافته.
ولاشك أن الإنسان يتأمل مستقبلا آمنا وعلاقات دولية أكثر مرونة ومصداقية تراعي المصالح العامة للدول والتبادل التجاري دون شروط تطبيع مع إسرائيل أو تغيير مناهج دينية أو أحكام شرعية، فالغزو الثقافي الغربي أرغم المجتمعات العربية على تغيير ثقافتهم عطفاً على السياسة التوسعية وانتشارها والتي أسبغت على حياتنا الكثير من المفارقات في المأكل والملبس والشكل والأنشطة المتنوعة، ورغم رفعها للكثير من الشعارات وتظاهرها بتعزيز القيمة الجوهرية للإنسان، إلا أنها تنبثق من وازع السيطرة الاستبدادية على المجتمعات وتغيير هويتها الأصلية.