لم يخب الظن بأبطال منتخبنا الوطني الأول لكرة القدم عندما سطّروا أروع الملاحم على استاد مدينة الملك عبد الله الرياضية بمحافظة جدة، فأضحت (الجوهرة المشعّة) هي واسطة العقد في قلادة الانتصارات والروائع الخضراء ، لقد تفوّق صقورنا الخضر على أنفسهم وأبهروا عشاق المستديرة في آسيا والعالم.
كُنتُ قد ختمتُ مقالي قبل الماضي (الأخضر في المهمة المستحيلة) بالنص التالي: «ليس هناك مستحيل مع الإصرار والتشجيع والمؤازرة فمنتخبنا الوطني عوّدنا على إنجاز المهمات المستحيلة مهما كانت التحديات وعلى دروب الأخضر البطل دوماً نلتقي». وها نحن اليوم نلتقي بعد إبهار الكتيبة الخضراء في مواجهتي أستراليا والإمارات وسط كل معاني الرضا والاطمئنان لدينا كسعوديين، بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بأفعال الرجال داخل المستطيل الأخضر.
دعوني في البداية أحيي صاحب السمو الملكي الأمير النبيل عبد الله بن مساعد بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للرياضة، هذا الرجل العملي الذي أضفى معنى جديداً للمسؤول الأول عن الرياضة في البلاد، وهو يخلع مشلح البروتوكولات الرسمية ويلغي طابور المرافقين، حيث كانت مشاهدة سموه منذ بداية التصفيات مع اللاعبين في المعسكر قبيل مواجهة تايلند، متناولاً معهم إحدى الوجبات بلا تكلّف أو تصنّع، تبعث بالأمل والتفاؤل في قادم المواجهات رغم تواضع البدايات، والحمد لله تحقق ما كنا نصبو إليه فتطور المستوى شيئاً فشيئاً من مباراة إلى مباراة.
إن كل متابع ينظر بعين الإنصاف لا يسعه إلا أن يذكر ما يقوم به المشرف العام على المنتخب طارق كيال من أعمال فيشكر له صنيعه، فعلى عاتقه تقع مسؤولية يوميات المنتخب بكافة تفاصيلها، وبالتالي يكاد يكون في فوهة مدفع النقد وأول من سيصطلي بنارها في حال - لا قدّر الله - حدث إخفاق أو خسارة تاريخية أمام أستراليا أو اليابان، وهذه بلا شك مهمة تستنزف طاقة الإنسان ووقته وصحته، فكل الشكر والتقدير لأبي راكان، وبمثله من الكوادر الوطنية نفخر ونتفاءل بغدٍ مشرق لأخضرنا البطل.
في يونيو 1992 استضافت مملكة السويد النسخة التاسعة من بطولة كأس الأمم الأوروبية، وكان منتخب يوغسلافيا متأهلاً إلى تلكم البطولة، إلا أن اندلاع حرب البلقان - والتي أفضت فيما بعد إلى تفكك يوغسلافيا وتقسيمها إلى ثلاث دول هي البوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا - أدى إلى استبعاده من البطولة وحلّ مكانه منتخب الدنمارك الذي تمثّل في هذه البطولة المثل الحجازي الشهير: (جاء يطل وغلب الكل) فبالرغم من استدعائه المتأخر للمشاركة في البطولة، إلا أنه استطاع هزيمة أساطين القارة العجوز فتعادل مع إنجلترا وفاز على فرنسا في دور المجموعات، وفاز على هولندا في نصف النهائي قبل أن يظفر بالكأس في المباراة النهائية إثر فوزه على ألمانيا بهدفين مقابل لا شيء؛ ربما لم يكن أكثر المتفائلين في كوبنهاجن يتوقعون أن يتجاوز منتخبهم دور المجموعات، لكنه الإصرار والواقعية وعدم احتقار الإمكانيات كانت هي الفيصل في مسيرة المنتخب الأحمر، وهذه العوامل في ظني هي ترياق كل فريق أو منتخب يخوض منافسات رياضية صعبة ويحققها.
لقد كان الشعور السائد قبل بداية مواجهات منتخبنا في التصفيات النهائية المؤهلة لكأس العالم في روسيا 2018، شعوراً موغلاً في الإحباط لا تكاد ترى فيه بارقة أمل تلوح في الأفق رغم تحقيق نتائج إيجابية في التصفيات الأولية، لكن تذبذب المستوى بين مباراة وأخرى، كان له دور بارز في اهتزاز ثقة الجمهور، وما إنْ ظهرت في منتصف أبريل الماضي أسماء المنتخبات التي سنلاقيها في مجموعتنا وكان على رأسها منتخب أستراليا بطل كأس أمم آسيا عام 2015 ومنتخب اليابان صاحب الرقم القياسي في تحقيق كأس أمم آسيا بواقع أربع مرات أعوام 1992، 2000 ، 2004 و 2011، حتى أصبح لدى الغالبية العظمى من السعوديين - وأنا أحدهم - قناعة شبه تامة بأن منتخبي أستراليا واليابان هما من سيظفران ببطاقتي التأهل، وازدادت تلك القناعة بعد الفوز غير المقنع في الجولتين الأولى والثانية أمام تايلند والعراق، ومع اقتراب مواجهة أستراليا في الجولة الثالثة أطلق الإعلاميون والمغردون في تويتر النداء الأخير لكل المسؤولين عن المنتخب، لم يخل من العنف اللفظي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل وقوع الكارثة الحتمية.
لكن أبطالنا كان لهم رأيٌ آخر فما قدموه أمام أستراليا والإمارات كان نقلة تاريخية مذهلة في تاريخ الكرة السعودية، وإذا بنا معشر المتشائمين في منتصف أبريل نرى بأم أعيننا الأخضر وهو يتربع على عرش صدارة المجموعة في منتصف أكتوبر، بفضل الله وتوفيقه ثم روح البطولة لدى أفراد منتخبنا الوطني، والتي عبّر عنها بوضوح الحارس الأمين الكابتن ياسر المسيليم لدى إجابته عن سؤال أحد الإعلاميين قبيل مواجهة أستراليا ومدى صعوبتها عندما أجاب: نحن 11 رجلاً في الملعب وهم 11 رجلاً في الملعب. وكأني بالمسيليم يختصر كل الكلام بتلك العبارة الجميلة الواقعية التي تشع ثقةً وإصراراً وتحدّياً، وقد أوفى هو وزملاؤه بالوعد وقدموا بعض ما لديهم فتعادلوا مع المنتخب الأسترالي العنيد، وهزموا الأبيض الإماراتي بثلاثية تاريخية نظيفة جميلة، ربما لم يفق من صدمتها حتى الآن بعض عشّاق الأبيض البطل.
ونحن ندلف للجولة الخامسة بعد شهر تقريباً وفي جعبتنا 10 نقاط ومستوى متطور، أناشد صقورنا الخضر مباشرة بأنّ القادم أصعب وأنتم تخوضون معظم الجولات القادمة خارج أرضكم وبعيداً عن جمهوركم العاشق، فلا تخبو شعلة الحماس في قلوبكم ولا يجف عرقكم وهو يسقي ملاعب الدنيا عشقاً وحباً وفداءً لوطننا الغالي، إن موسكو 2018 باتت على مرأى من النظر، ولكن لا يعني ذلك الركون إلى الأمنيات وترك العمل، أرجوكم أديروا ظهوركم لكل مظاهر الفرح التي شاهدتموها منا، وضعوا الآن طوكيو نصب أعينكم نريد النقاط الثلاث مهما كلف الثمن، فأنتم من رفع سقف الطموح لدينا وأنتم أهلٌ لها وقلوبنا معكم يا صقورنا الخضر الأبطال حفظكم الله لنا.
- محمد السالم