د. محمد عبدالله العوين
في ظرف سياسي وعسكري صعب يلف الأمة العربية كلها، القريب من موضع الحريق والبعيد النائي الذي يعتقد أنه في مأمن من الخطر، يتغافل البعض عما يجري من أحداث مرعبة، وكأن كل بلد من بلدان بني يعرب لن يطاله ما طال إخوانه في الأقطار العربية التي امتد إليها حريق الفتن والانقسام والثورات والدمار.
لا وقت اليوم يمكن أن يهدر في الاختلافات السطحية، أو مناقشة المواقف العابرة ، أو التمسك بشعارات قديمة عفا عليها الزمن، أو التغني بأحقية قيادة الأمة، أو حتى الشعور بالاستغناء عن عون الشقيق وعدم الحاجة إلى نصرته إن استدعى الأمر بدافع الامتلاء بمشاعر القوة والقدرة على التصدي ؛ فالمؤامرة على الوطن العربي كله كبيرة وخطيرة وكاسحة لا تستثني أحدا ولا تنتقي وطنا وتدع آخر، فغاية خطة «سايكس - بيكو 2» إعادة الأوطان العربية إلى مرحلة أشد ضعفا وبؤسا وتخلفا وعدم مقدرة على الحياة من وضعها البائس في أواخر هيمنة الدولة العثمانية، أي قبل خطة سايكس بيكو الأولى واندلاع الحرب العالمية عام 1914م.
ومن أدوات الإضعاف والتفتيت والتقسيم والتدمير لدول المنطقة واحدة تلو الأخرى إثارة الضغائن بين الإخوة، وإحياء ما يفرق ولا يجمع، وما يبعد ولا يقرب ؛ إن كان من شعارات قومية قديمة، أو طائفية منبوذة، أو مذهبية ضيقة الأفق، أو دعاوى تملكٍ على أمتار من الأرض في الحدود المشتركة ؛ ليظل النزاع قائما ولتبقى الأنفس مهيأة للإثارة عند أية بادرة للاختلاف في موقف من المواقف، والإخوة في البيت الواحد قد يختلفون في معالجة مشكلة أو البحث عن حلول لمعضلة، لكن الاختلاف قد يقود إلى حل؛ أما الخلاف فيباعد بين القلوب ويغير النفوس ويشوش معالم الرؤية للحق.
اعتمدت خطة إشعال الفتن في ديار العرب والمسلمين على تأجيج مشاعر الولاء الطائفي؛ كما هو حاصل الآن من اقتتال عنيف وخصومات وشتائم بين طائفتي الشيعة والسنة، ومن يوقد هذا العداء هم المستفيدون من تعميق الكراهية مستخدمين « التشيع «وسيلة للوصول إلى أهدافهم البعيدة في كسر شوكة العرب والمسلمين واحتلال بلدانهم وتدميرها وإعادة المجتمعات العربية إلى الجهل والتخلف والفقر، كما هو حاصل الآن من في العراق والأحواز وسوريا ولبنان واليمن ؛ فقد تمدد الفرس الصفويون بحجة التشيع وخدعوا ملايين العرب من هذه الطائفة بوعود كاذبة خلبت ألبابهم بدعاوى نصرتهم وتمكينهم، وهم والحق ما زادوهم إلا ضعفا وبؤسا واحترابا وفقرا وتخلفا، وما زادوهم إلا دجلا وشعوذة وتغييبا للعقول وسلبا للأموال، فماذا جنى العراق بعد أن احتله الفرس ؟ لقد عاد إلى القرون الوسطى ومزقته الجماعات المتطرفة، واندثرت مدنه العامرة، وتشرد شعبه وانفصلت أقاليمه، وإلى ماذا صارت سوريا بعد أن حكمها الصفويون وحولوها إلى حسينيات؟ لقد أصبحت ركاما من الإسمنت والحجر، وفر اثنا عشر مليونا من أهلها إلى آفاق الأرض هربا من الجحيم، وماذا غدا لبنان بعد أن كان منارة الانفتاح والتمدن وحرية الاقتصاد بعد أن أنشب « حزب الله « فيه مخالبه ؟ صار بلدا بلا رئيس ولا حكومة ولا جيش، وها هو يحكمه الحزب بشعارات الدجل وادعاء المقاومة بعد أن كانت تحكمه مؤسسة رئاسية وبرلمان وجيش نظامي وإعلام متعدد الرأي، وكيف أصبح اليمن السعيد بعد أن حكمته مليشيا الحوثي الإيرانية ؟ لقد أحالته العصابة بأدلجة طائفية ودعم عسكري ووعود كاذبة من إيران لاجتياح جزيرة العرب إلى نار ملتهبة تأكل الأخضر واليابس.
لا وقت للاختلاف في التفاصيل، الأمة كلها في خطر!
ولن يستثني الخطر قطرا دون قطر!
فالمؤامرة القذرة التي تخطط لها الصهيونية وترعاها أمريكا وتنفذها إيران تسير وفق ترتيب زمني معين وتصاعد أحداث مرسومة، فما أن يبدأ الدمار وتشتعل الحرائق في بلد كسوريا أو ليبيا أو اليمن أو العراق - مثلا - تتولى أمريكا ومن يقاسمها الأهداف من دول كبرى وينهض مجلس الأمن ووسطاؤه بأدوارهم وألاعيبهم ومؤتمراتهم ورحلاتهم المكوكية في استمرار حالة التدمير، وما أن تهدأ النار الملتهبة قليلا إلا وتوقد من جديد بإدخال فصيل أو جماعة أو دولة تدعي أن لها مصلحة في هذا البلد أو ذاك.
إنني لأجد شبها شديدا بين تلك السنوات الأخيرة من تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس؛ حين استطاع القوط تمزيق تلك الدولة العربية إلى طوائف، وكل طائفة تنتصر بالعدو على أخيها إلى أن تم سقوط غرناطة آخر معقل عربي 898هـ.
لا نتمنى أن نكرر أخطاءنا التاريخية ؛ فنندم، ولا ساعة مندم!
إن توحدنا جميعا اليوم ؛ الكثير مع القليل، والغني مع الفقير، والقوي مع الضعيف ؛ وإلا فسيمتد اللهب إلى أبعد قطر في الخارطة العربية.