علي الدميني
(المرحلة الأولى)
ندرك من قبل ومن بعد «رولان بارت» بأن كل كتابة أو مقول شفهي، أو لوحة، أو موسيقى، أو حركة أو إيماءة أو محادثة، أو خبر صحفي، تنبني غالباً على بعد سردي. و الشعر العربي كأبرز فنون القول الإبداعي قد أشتغل على هذا المنحى السردي منذ شعرنا الجاهلي إلى اليوم، من خلال ما يوظفه من بناء جمالي تتشكّل فيه الشخصية والحدث و المكان والمشاعر الوجدانية، أما قصيدتنا المعاصرة فإنها تذهب في سرديتها إلى توظيف «الحكي عن الجسد، والخبرة الجسدية، والخبرات الثقافية، والمعاناة الاجتماعية والسياسية» كما يرى الدكتور صالح أبو أصبع(1)
كما أفادت حداثة القصيدة العربية من ذلك البعد حيث «تغدو القصيدة التي استعارت السرد ذات بنية مركبة، ومعقدة، تتداخل فيها الاستعارة بالمجاز، والرمز بالواقع، والفردية بالجماعية، والواقعية بالسحرية، والواقع التاريخي بالمثيولوجيا، والتجربة الشخصية بالتجربة العالمية، فأصبح صوت الشاعر عاماً على الرغم من أنه محلي الكلام والصورة» (2) ياسين النصير.
وقد تجلى منحى التسريد الشعري وأبعاده الملحمية في الديوانين المبكرين للشاعرة فوزية أبو خالد، وفي ثنايا قصائد عديدة، منها: إلى عاملة على الرحى، من يقاسمني إرث أمي، إلى متى يختطفونك ليلة العرس، محاكمة غير علنية لحبٍ علني، في المؤتمرات التنكرية، هواجس برجوازي صغير، بين الرغيف و بين الشهادة، قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي. و قد انتظمت إبداعاتها في خيط حواري رهيف ينسج تشكيل شعرية النص من كثافة العبارة وفضاءات المجاز و الاستعارة، وترابط الداخل بالخارج، عبر اتكائها على مركزية الهوية الإنسانية و توظيف غنائية الصوت الداخلي وحراراته وحرائقه لتتصعّد الحالة الشعرية إلى فضاءات التحام الفرد فيها بلحمة الجماعة، انتصاراً وأملاً، أو جراحاً وانكساراً.
وإذا كان البعد الملحمي قد تبدّى في المسيرة الشعرية العربية والإنسانية كتعبير عن البطولة الفردية والجماعية، وأسطرة القدرة البشرية لتنتصر على أقدار الأسى والظلم والاستبداد، فإن الشاعرة هنا تستعيد مرموزات تاريخية، وتكتب سيرة ملاحم معاصرة بشكل آخر يكاد أن يكون نقيضاً لمتن تلك الملاحم التاريخية، فتغدو قصائدها هجاءً نقدياً للواقع المحلي والعربي في كافة حمولاته ومكوناته، من خلال مقدرتها على التخليق الشعري - في بعده الاستعاري والكنائي- الذي يؤالف بين التاريخي والأسطوري و فواجع الواقعي المعاش.
والشاعرة تبني معمار نصها بطريقة تفاعلية خلاقة، بحيث يبدوان كياناً إنسانياً و كتابياً واحداً، يتناغم في بنيته الداخلية (لغةً، ومجازاً، وإحالات، وأبعاد ملحمية أو مشهدية) مع مستوى بناء الدلالات في كافة أبعادها الرمزية و الواقعية، المنصهرة في بؤرة بوصلة الرؤية المنسوجة من الوعي بالذات والرهان على مقدرتها في إثارة الحساسية الجمالية التي يعبر فيها المثقف و الشاعر العضوي عن نقده للواقع، وعن مسؤوليته الفردية إزاء وجوده وحضوره وحيّزه المكاني والزماني، و إزاء شركاء الحياة، من البيت إلى الوطن والأمة، و إلى الكون البشري أيضاً.
وما كان لشاعر ينطوي على هذه القيم و القدرات و الهموم و الانشغالات إلا أن ينحت فنية هيكل قصيدته من جوهر الوجع الإنساني الذي يعايش هواءه و فداحة حمولاته النفسية و الثقافية والوجودية، وبكل عزيمة ومضاء.
ويبدأ البعد الملحمي في اشتغالات الشاعرة من بؤرة الرؤية الإنسانية العارفة، والمتكونة من إحساس عميق بجدلية ترابط العلاقة العضوية والمصيرية ما بين هموم وأوجاع وأحلام الذات الفردية وتلك التي تتعلق بالجماعة، في أبعادها القريبة والبعيدة. فنقف معها على قصيدة بعنوان «معين» التي أهدتها إلى روح الشاعر الفلسطيني « معين بسيسو»، حين يأخذ العنوان دلالاته القاموسية (العون والمساعدة\ الثقافية و الرمزية، أو المعين الذي لا ينضب)، و الحياتية كمثقف صديق، و النضالية كأحد رموز المقاومة الفلسطينية المبكرة فكريا وسياسياً، لتبدع رسم تشكيل فني يعبر عن عن تراجيدية الألم والافتقاد في تلك اللحظة، وعن أشجار الأمل أيضاً:
«كان وجهك كرملياً يدخل غبار الرماد
لينفض عن يافا التعبْ
كان ذهابك معلّقة الانكسارات
عندما يُحال بين المنجل و بين الغضبْ
...
معين ذهبتْ
... تنفرط عيون إلزا على ترابك الآن
عِقداً من البارود والياسمين». (ص 125 - الأعمال الشعرية)
وتتصادى دلالات هذا البعد الإنساني للشاعرة مع نصها الموسوم بـ «بين الرغيف وبين الشهادة»، الذي استحضر الموقف الاجتماعي والثقافي العفوي لأبيها، حيث تقول، في حوارية تستعير البعد السردي:
«قلت له، قالت لنا المعلمة
«هتلر» كان سيقضي على كل اليهود
أشار إلى لوني وقال:
كان هتلر عنصرياً
ثم أكمل: لا فرق بين قبيلي ولا خضيري
ثم.. ثم
ثم تزوجته أمي» ص129 - الأعمال الكاملة
إن التخندق خلف البعد الإنساني الواعي، يغدو في جوهره بعداً نضالياً في مستوياته المتعددة، حيث يمتزج وقوف «معين بسيسو»، مع آلام وأحلام شعبه وحقوقه وموقعه على الخارطة، مع الموقف النقدي الاجتماعي الذي يجترحه «الأب» في رفضه للتمييز العنصري الذي مارسه هتلر، مثلما يقف ضد التمييز الاجتماعي الذي تمارسه بعض العادات الرثّة في مجتمعنا. و لذلك يفتح النص أبوابه ليأخذنا إلى مرحلة ارتقاء موقف « الأب» من حالة الوعي إلى الممارسة والحياة المعيشة، فتتزوج الأم بالرجل، رغم الفروق الاجتماعية. وتصعّد الشاعرة تلك الدلالات حين تقول «وتزوجته أمي»، ولم تقل وتزوجها «أبي»!
الشاعرة تقرأ الصمت جمالياً، وتذهب إلى كشف أسراره
في قصيدتها «قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي»، يبرز «التعبير الشعري» - بحسب أفنان القاسم - الذي يجمع بين الصورة والضمير، بين الطريقة والشعرية، وبين الموضوع والخطاب موقعه لإبداع جمالية الصور الشعرية المغموسة في فضاء السردي، عبر تعدد زوايا التقاط الحالة وتعدد أصوات شخصيات النص، واشتباك الداخلي بالخارجي، ويتضمن في سياقه بعداً ملحمياً يتولد من لحظة تحول التجربة من بعدها الذاتي إلى بعدها الموضوعي والجمعي، ليعمل على إغناء جماليات النص واتساع فضاء دلالاته، وإمكانات الانفعال الجمالي به:
هذه البنت التي بها «مسُّ القرين إلى القرين»، والتي لا تجيد من الحرب إلا الكتابة، ستكاشفنا في هذا النص عن جذور منابع الأوجاع المزمنة في تاريخنا العربي. وحيث لا يتناغم مع وطأة الصمت سوى قراءته في السر فإن النص يتكئ على شفراته الخاصة القادرة على كشف عتمة الصمت وتعريته، في ثمانية مقاطع، أسمتها مراحل، تشتغل فاعليتها الجمالية على تكثيف بؤرة الرؤيا - الموازية لمفهوم التبيئر السردي - حول «الوجع و الرفض»، حيث لا تبقى قضية الوطن السليب بكل أبعاده محوراً كلياً واحداً، وإنما تغدو قضية تحرير المرأة من أحمال الاستلاب والإقصاء والتهميش أيضاً، مسألة جوهرية في نصها، حين تشحذ أحدّ ممكناتها قدرةً على التعبير، لتقول» لا أجيد من فنون الحرب غير الكتابة».
شاعرة النص \ أو بطلته السردية، هي الرواي لحكاية:
«بنت من بلد
الفلفل والصبّار
والبلح الأخضر»
و«هي البنت التي تراودها المراحل عن نفسها».
إنها نبت الصبّار (الثقافي والاجتماعي) الذي يغريك لون اخضراره بشهوة الحياة، ولكنه يشبه الصبر الأزلي، ويشبه البلح الأخضر في لونه، وفي عدم إمكانية تحويله إلى هواء وماء وغذاء وحياة.
من على صفحة هذا المعنى الأول للنص، ينفتح موقع أنثى القصيدة كذات وكرمز للمرأة، وللوطن الذي يتسع من مكان المعايشة اليومية إلى الوطن الوجداني والثقافي والحلمي الأشمل، الذي يشغل ضميرها كأنثى مقموعة، وكمثقفة مهمومة بأوجاع وطنها و أمتها العربية المتفاقمة منذ عام النكبة الفلسطينية و حتى اليوم، حين تشحذ أحدّ ممكناتها قدرةً على التعبير، لتقول:» لا أجيد من فنون الحرب غير الكتابة».
وحيث إن فاعلية الضمير الإنساني المنفعل بوطأة الأحداث القوية الكبرى، سوف تعمل على خلق حالة النقد والرفض و النزوع نحو التغيير، وتحفز حالة الكتابة الإبداعية إلى المنحى الشمولي الواسع، فإن السردية ستأخذ موقعها في النص من أجل تعميق جمالية الرؤيا و ملحميتها. ولذا نرى أن تشكيل حالة «التبئير» في مفهومه السردي - التي تعني هنا الرؤية والمسافة وتوجيه دلالات الكتابة نحو محارقها الرئيسة - قد نسجت أغصان شجرة هذه القصيدة وغيرها من قصائد المرحلة الأولى في تجربة الشاعرة- ابتداءً من حالة التبيئر صفر، حين تكون الذات وحيدة ومنغمسة في رماد الهزائم، حتى الدرجة الأعلى حين يكون الواقع بكل تجلياته المختلفة هو مناط الطلب في جملها الشعرية، فيرتفع الصوت من موضع المناجاة اليائسة إلى صوت التساؤل والشك والرفض، فنراها في اللوحة الأولى، التي يبدأ الحدث فيها من الذروة نازلا إلى التفاصيل:
يا ربي / يا رب الأرباب
يا رب هذا الحريق، و رب الرطوبة في ميناء جدة
ورب جروح النساء
أكشف عني غطائي
كاشفني هل كل ما يجري حلم؟
أم أن المقصود بجهنم وطني؟
أما اللوحة الثانية فستشير فيها إلى جراح فلسطين الجديدة، حين ترى غصناً يقطع من أمه وهو بعد في العاشرة ليذهب إلى المفاوضات، وتلمح أريحا في الخواتم، وتظلم أريحا في الذاكرة، حيث نرى دلالات «الخواتم» في مجاز الكلام، حين ينخلع من معناه الأول الدال على الجواهر و»حلية الأصابع» ليغدو استسلاما ومصالحة وخاتمة نضال وأنهار سالت من الدماء . وتأخذ «أريحا» رمزيتها التاريخية باعتبارها أقدم مدن التاريخ التي قاوم أهلها الهكسوس وضحوا بأرواحهم دفاعاً عنها، مثلما تعرضوا لحرب إبادة من قبل بني إسرائيل حين كانت أريحا أول مدينة كنعانية تهاجم من قبل بني إسرائيل، على يد يوشع بن نوح وأحرقوا المدينة وأهلكوا من فيها. وهكذا تلمع أريحا في بعدها الملحمي حين تكون أول قربان للمفوضات المعاصرة!
وتمضي شعرية السرد في النص إلى تنويع زوايا الرؤية والمواقف التي تصعّد من درجات تنامي درامية وملحمية النص، مراوحة ما بين العالم الداخلي الغنائي للشاعرة والعالم الخارجي، فتقف الحالة الثالثة على إبداع لوحة علاقة حبيبين ببعضهما في جدل التكامل والتعارض، وتراجيدية العشق والكره في أبعادها العاطفية والثقافية، فتقول: «على ملّة حبيبي كنتُ / أحب وأكره فيه / يحب حبيبي من الغزوات التسرر / فأرضى التسرر»، ولكنها تنتفض حين تراه في موقف ثقافي مغاير، إذ يتحول الحبيب من كنائيته الواقعية إلى استعارية أوسع تشتمل على معنى الوطن والأمة، فتقول: «أخلع الكحل والزعفران / أنقسم بيني وبيني / أكتب بالطين/ أكتب بغبار الرصاص».( ص 135)
وهكذا تتعاضد اللوحات البانورامية، لإشعال حالة الانفعال الشعري في أبعاده الملحمية، إزاء حالات البؤس والظلم والخذلان التي تعيشها المرأة والأمة على السواء، وترتفع دلالات الغضب إلى ذراها العالية في اللوحة التي أسمتها «مرحلة ليست أخيرة» كدلالة على استمرار تراجيدية الوجود العربي ثقافيا واجتماعيا وسياسياً، في إشارتها إلى جيل غضب جديد ينبع من « مجزرة صبرا وشاتيلا، وسواها!