ياسر حجازي
لست شيئاً آخر غير وعيك؛ أنتَ هؤلاء الذين يمثِّلون كلّ الأفكار التي استقبلتها منذ وعيت، وكلّ السلوك الذي صادفت أو عرفت منذ خرجت إلى الدنيا واختبرتها واختبرتك، فتأمّلْ: مَن الحاكم ومَن المحكوم؟ أنتَ أم أولئك؟ أكثريتهم أم أقلّيتهم أم واحد منهم فقط، استبدّ بهم وبك؟
ربّما، كلّ شخص داخل وعاء الوعي يُمثّل صفة ما، يمثّل اتجاهاً، يمثّل فعلاً ما، هكذا تحمل في وعيك كلّ الصفات والاتّجاهات والأسماء والأفعال التي وعيتها وخبرتها، وليس من عجبٍ: أنّ الوعيَّ وعاءُ. الافتراض والشكّ والأسئلة جزءٌ أساسٌ من عمل الوعي في تفسيره لوجوده وبقائه واستمراره، حيث يفترض ما يناسب وعيه ثمّ يمتحن افتراضاته ويعدّل فيها في رحلة عمره، سنوات وتجارب بعد أخرى، وكلّ افتراض يظهر عجزه في تقديم منفعة لصاحبه ويفشل في البقاء، فإنّ بقاءه حاكم في وعاء الوعي وما به وهمٌ لا يخدم الإنسان، والوهم كما ذكرتُ في سياقات أخرى: (الوهمُ جزءٌ من الوعي وليس شيئاً آخر من خارجه)؛ كيف ولماذا؟
أوّل الوعي بالحياة هو حقيقة فقدانها: «أنا حيُّ، إذن، أنا ميّتٌ» وبين الأنايين وُلدتِ الحريّةُ والخوفُ كاملين في الوعي؛ يقو الوعي: «حُرّ في حياتي، حرٌّ في حماية نفسي من شكوك الخوف الذي يُمليه عليّ موتي القادم». أوّل الوعي: «أنا حيُّ وحرٌّ، وغيري حيُّ وحرٌّ، وما لديّ من وعيّ لديه»
وكلّ ما بعد ذلك، جاءَ وتكاثر وتطوّر متأثّراً «بأنا حيّ، وغيري حي» تحت تفاعلات كيميائيّة بين الافتراض والأوهام والعلم؛ وحتّى نفهم الوعي من باب تفكيك الوهم، علينا أن نعود إلى سؤال الخوف الافتراضيّ، الذي كلّف الإنسان وما زال يكلّفه الكثير الدماء والكثير من فقدان السعادة: (ماذا لو؟)
ماذا لو؟! بهذا السؤال بدأت حكاية العنف، كفعل مستقلّ عن أيّة ردّة فعل يلزمها الجوعُ أو الدفاع عن النفس، بلْ، فعلٌ مستقلٌّ بمفرده هو انعكاسُ خوفٍ أنتجه الوهمُ في الوعي؛ هكذا بدأ تبرير القتل لأجل القتل، هكذا نشأت أوّل الثقافات التي أعطت للقتل معان من خارجه، وجعلته حلّاً مخدّراً لفوبيا: (ماذا لو؟) الخوف من الغد، الخوف ممّا سوف يحدث لاحقاً، الخوف من الآخر، الذي لديه في وعيه الخوف والحريّة نفسها.
- «ماذا لو لم أجد شيئاً يؤكل غداً؟ ماذا لو أنّ (هذا الذي يشبهني في الوعي) الذي هو حيٌّ مثلي، وسوف يموت مثلي، والذي يخاف مثلي، ماذا لو قتل الفرائس جميعاً؟ ماذا لو أخذ كلّ شيء يؤكل ولم يدع لي شيئاً؟ ماذا لو أنّه قتلني كما نقتل الفرائس؟ لماذا أفكّر أنّه يفكّر بقتلي؟ كيف أعرف ذلك؟ إنّه يشبهني، إذن، يفكّر كما أفكّر، وأنا الآن أفكّرُ بقتله»
كانت فريسة واحدة تكفيه، وحاله غرائزيّاً يقتل عند الجوع أو دفاعاً عن نفسه، ثمّ يكتفي، ولا يخاف؛ لم يكن قبل الوعي يخاف، لم يكن قبل الإنسان حُرّاً، وخوّافاً، وموهوماً.
الخوفُ وعيٌ، له جنّته، وله نعيمه.
وحينما ظهر الخوفُ بعد (أنا حيٌّ) نشأ كابوس: (ماذا لو؟)، ووُلد الإنسان القاتل منذ تلك التحوّلات الأولى في ولادة وعي الإنسان. وتأنسن فكره وسلوكه؛ والأنسنة ليست شيئاً آخر غير الوعي وما أنتجه في رحلته حتّى اليوم: من إخفاقات ونجاحات، من عنفٍ وشريعةٍ، من طغيان في التوحّش فوق طبيعة الوحوش الغرائزيّة، لأنّ الوحش الواعي والخائف أكثر خطراً من غابة مليئة بالجوارح إلى رحمةٍ لا يمكن أن تعرفها الغابة أظهرها الإنسان لينتصر على أجزاء وعيه العنيفة...؛
هكذا بدأ الإنسان مشوار الوعي حتّى نشأت الشرائع والقوانين ردّة فعلٍ -بعد تفشي الآثار المهلكة لحريّة الخوف- لفعل الوعي الأول: «أنا حيّ إذن أنا سأموت، فماذا أفعل؟».