نادية السالمي
نحن الذين آمنا بقول أسلافنا «الكتب تغني عن الناس» عملنا بمقتضى هذا الإيمان على أكمل وجه، لهذا كان في دخول الكتاب الإلكتروني لميدان القراءة، صدمة نفسية وليست ثقافية لم نستطع التعامل معها ولا تجاوزها. القراءة التهام وشغف، والكتب الإلكترونيّة تحد من هذا، بل هي لا تعترف بتفاعل القرب والرغبة في احتواء محتوى الكتاب. احتضان أول صفحات الكتاب وآخره بين يديك شعور غامر بالانتماء، والامتنان للكاتب والناشر ومصمم الغلاف، والكاتب يبذل مافي وسعه ليحصل على غلاف يليق بالقارئ، ويجتهد في اختيار نوعية الورق حتى يكون خير رفيق للقارئ، وكل هذه الجهود محط اهتمامنا وتقديرنا.
والكتب الإلكترونية لن تستطع منحنا مانريده من شعور الانتماء، فالتخلي عن جمودها يدخلها في إطار ليس لها، يخل بالغرض من وجودها، ولا شك في وجودها وحتى أهميتها في عصر كعصرنا.
لكن علاقتنا بالكتب الورقية جعلتنا مترفي الحس، فطوينا مع كل صفحة فيها ذكريات جميلة نعود إليها متى ما داعنا الداعي ككيفية الحصول على ثمن الكتاب، وفرحتنا ونحن نخرج في معيته من المكتبة، أو الإهداء الخاص الذي يزيّن أول صفحاته من صاحب الكتاب، كل هذه الأمور ستبعث الفرح، وتجعلك مغمورًا بالسعادة، حتى حروف اسمك في الإهداء تخالها طيورًا ترقص فرحًا بالهدية وصاحبها.
هذه العِشرة الطويلة مع الكتب الورقية تعلمنا منها كيف نجل كتّابنا المفضلين ونقتسم معهم دون سابق معرفة خبز الثقافة وملح المعرفة، وكيف بمقدورنا أن نختلف معهم ونحول دون سقوطهم من أعيننا، تعلمنا أيضا كيف نُحسن للكتب، وكيف نُقدر الكتب كرفقاء درب، وأصدقاء وحشة، لهذا يزعجنا ما تلقى من اهمال حين تُلقى كنفاية على قارعة طريق، أو حين تنسى على رف عتيق، وتسلسلنا بالغضب تلك الرموز والحروف المصلوبة في مساحة صغيرة بيضاء كنوع من «الشخبطة» لتفريغ قلق صاحبها الذي يقذف تشوّه اللخظة في وجه الصفحة.
نحن الذين احتوتنا الكتب نحبها كما نحب أناس قاسمونا مشاعر متباينة في أوقات عصيبة، وما تخلوا عنا، ولا أغار النسيان على ذكرتهم..
كل هذا الحب وعظيم المكانة لا يدركها الذين استعاروا كتبنا وضلت طريقها في العودة إلينا فتركونا للفقد، كما تركوا في المكتبة مكانًا فارغًا يطويه الوجع.. وقد صدق الشاعر الموجوع إذا قال:
إذا استعرت كتابي وانتفعت به
فاحذر وقيت الردى أن تؤخره
فاردده لي سالما إني شغفت به
لولا مخافة كتم العلم لم تره
ولكل حب صادق خطأ مهما حاول الإنسان تجنبه، وأكبر أخطائنا في مقام الكتاب نصحنا لكل طالب نصح يريد اقتناء أفضل الكتب، وفي هذا تقليل من احترامنا للكتب فنظرتنا وشغفنا واندفاعنا لكتاب دون كتاب ولموضوع دون آخر، ولكاتب دون سواه قد لا يتناوله شخص آخر بنفس الشغف، والتوق لمعانقته، لهذا لا ينبغي أن نرتكب هذا ، لاختلاف ميول القراء، وتباين أفكارهم، ومدى تورطهم من عدمه في تصنيف المؤلفين والمرحلة، لهذا الأجدى أن يختار كل منا مايود قراءته ويحب اقتناءه دون وصاية.