د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تعد الثقافة من ميزات المجتمع المتحضر، إذ لا يمكن أن يحدث التطور إذا لم يكن ثمة حراك ثقافي تتفتح به العقول وتستنير به القلوب، ولهذا تحرص المجتمعات الواعية على أن يكون للثقافة نصيب كبير من اهتمامها؛ لأنها تدرك تماماً أنها السبيل الأكيد للتطور والتحضر، حتى يمكنها اللحاق بركب الأمم المتقدمة.
ولا شك أن بروز نخبة مثقفة في أي مجتمع أمر حتمي، فقد اقتضت حكمة الله أن تتفاوت عقول البشر، وأن تختلف في طريقة التفكير ومستوى الثقافة، ولهذا فلا غرو أن تبرز مجموعة من الأسماء التي تتصدَّر المشهد الثقافي، وتتقدَّم في كل مناسبة ثقافية، فيُحتفى بها، وتنال من التقدير والاهتمام ما تستحقه، وهذا أمر طبعي في ظل ما قدموه ويقدمونه من فكرٍ ينهض به المجتمع وتتطور به البلاد.
غير أنَّ كلَّ أمر إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه، والمبالغة في الأشياء قد يصل بها إلى حدود غير مقبولة، وهو ما ألاحظه في مشهدنا الثقافي المحلي، الذي تحوَّل كثير من إعلاميه ومثقفيه إلى جوقات تطبل لرموزٍ ثقافيةٍ محددة، تعدُّهم النخبة الذين لا نخبة بعدهم، وكأنَّ المجتمع أضحى عقيماً لا يمكن أن ينجب مثلهم فضلاً عن أن يأتي بأفضل منهم، وبولغ في ذلك حتى أضحوا أشبه بأصنامٍ مقدَّسة، يجب تنزيههم عن كلِّ خطأ، والاعتذار عنهم عند كلِّ زلة، وإيجاد المخارج لهم في كلِّ مخالفة.
والإشكالية أنَّ أفراد المجتمع يتأثرون بهذا، فيسيرون بوعي أو دون وعي إلى هذا التقديس، إذ ينظرون إلى هؤلاء المثقفين بعين الانبهار، ويتعاملون معهم وكأنهم من كواكب أخرى، ثم تراهم يتسابقون على كتبهم، ويتابعونهم بشغفٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويتنافسون في إعادة تدوير تغريداتهم؛ لأنهم آمنوا أن ما يقوله هؤلاء هو الحق المبين، وتوهموا أنَّ كلَّ كلمةٍ تصدر عنهم لا تكون عبثا، بل لها دلالاتها وأبعادها الفكرية والفلسفية! وأنهم لا يمكن أن يقعوا في مآزق أو أخطاء، فاتخذوهم قدوات ورموزا، يحمدون الله في كلِّ وقت أن رزق بهم هذا المجتمع الذي كاد أن يضيع لولا هذه النخبة المقدسة!
إنَّ مبالغة المجتمع في تقديس زمرةٍ من المثقفين جعلهم يتصدَّرون المشهد دون سواهم، حتى صارت المناسبات الثقافية حكراً عليهم، فلا تكاد تسمع بغيرهم، وكأنهم وصلوا إلى مستوى من الثقافة والتفكير لا يمكن لغيرهم أن يصل إليه، حتى ملَّ المثقف الواعي من تكرر أسمائهم، ومشاهدة إعلانات ثقافية لا تحمل سوى صورهم، والمصيبة الكبرى أنَّ كثيراً من هؤلاء لا جديد لديه، بل بات يكرِّر في كلِّ مناسبةٍ ما كان يقوله منذ عشرات السنوات؛ لأنه أفلس فلم يعد يملك رصيداً من جديد الثقافة، فصار يعتمد على اسمه اللامع في خداع المجتمع، ولا تتفاجأ حين يقوم بعضهم بإعادة إصدارٍ كتابٍ قديمٍ له، فيغير عنوانه وأسلوبه في تقديم فكرته، ويقدِّمه بوصفه كتاباً جديدا، ليثبت أنه ما زال قادراً على العطاء!
وأذكر أنَّ مجلساً ثقافياً ضمَّني مع بعض الزملاء، فسألني أحدهم عن مثقفٍ شهيرٍ مدعياً أنه متميزٌ في تغريداته ومؤلفاته، مظهراً إعجابه الشديد به، وحين عارضته تفاجأ واعترض بأنَّ له جهوداً كثيرة، فأخبرته أنَّ الجهود قد تصيب وتخطئ، وكثرتها ليست دليلاً على جودة ما يقدِّمه وتميز ما ينتجه، وحين ظنَّ أني معاند وأني ربما أتعمد المخالفة لأُعرف قال: هل تقصد أنَّ المجتمع على خطأ وأنت على صواب؟ فقلتُ: إنَّ مثل هذه الأحكام على أيِّ مثقفٍ يجب أن تكون متأنية لا مندفعة، وذلك بعد النظر في إنتاجه ودراسته وجودته وجِدَّته، أما الرأي بما يراه المجتمع فليس بصحيح؛ لأنَّ القارئ ينبغي أن يكون مستقلاً في فكره وذوقه، وأن يكون له رأيه الخاص في الحكم على المثقف وما يصدر عنه، مع تقدير كلِّ ما يقوم به من جهود، وما ينتجه من أعمال.