مقاطع من قصيدة طويلة
كالوقتِ جاءَ.. يدورُ حولَ أناهُ
ويتيهُ في صحراءِ لاجدواهُ
سارٍ إلى اللَّا أينَ.. غايةُ قَصدِهِ
أنَّ القصيدةَ من حقوقِ سُرَاهُ!
ما قالَ قَطُّ: (وَجَدْتُهَا).. وَهُوَ الذي
نَشَرَ الوجودَ برأسِهِ، وطَوَاهُ
رأسٌ ينوسُ كشُعْلَةٍ أَبَدِيَّةٍ
تَعِبَتْ بـحَمْلِ ظلالِـها، كَتِفَاهُ
يشكو.. وكُلُّ الأبجديَّةِ وِحْدَةٌ
لقياسِ عُمقِ الجُرحِ في شكواهُ!
والشعرُ بذرتُهُ العزيزةُ.. حيثما
يُلقِيهِ تنبتُ في المكانِ جِباهُ!
كالوقتِ جاءَ.. يُشِعُّ مِلْءَ مجازِهِ
من قبل أنْ يَلِدَ النهارُ ضُحاهُ
سَبَقَ الكلامَ إلى الكلامِ كأنَّما
من قَبلِهِ لم تُخلَقِ الأفواهُ
ما انفكَّ يقطفُ مفرداتِ بيانِهِ
من معجمِ الخفقانِ في أحشاهُ
ماضٍ إلى المعنى مُضِيَّ نبوءةٍ
فكأنَّهُ (موسى) إلى (سيناهُ)
سفرٌ يطولُ وشاعرٌ مُتَرَحِّلٌ
لا يبتغي وطنًا سوى معناهُ
ماضٍ يُحَرِّرُ بالنشيدِ زمانَـهُ
كي يفتحَ المعنى إلى أقصاهُ
هَجَرَ البلادَ جميعَها مُتَبَتِّلًا
للتِّيهِ حيث بلادُهُ قَدَمَاهُ
يحنو على ظبيِ الفصاحةِ كلَّما
عَلِقَتْ قرونُ الظبيِ في فُصحاهُ
مُتَخَفِّفٌ كالحقلِ بعد حصادِهِ
يكفيهِ من قمحِ الحياةِ سَـنَاهُ
أعمى، يُفَتِّشُ عن حقيقةِ سِرِّهِ
وعلى المجازِ تَفَتَّحَـتْ عيناهُ
ورأى الوجودَ.. رآهُ باباً مقفلاً
بالأحجياتِ فهَزَّهُ ودَحَاهُ
وطوى على يدهِ المدى فكأنَّما
كلُّ المداراتِ الْتَقَتْ بـمَدَاهُ:
عُرْسٌ ولكنْ لا عروسَ، فلم يزلْ
يُحيِيهِ بالقَدْرِ الذي يحياهُ
* * *
كالوقتِ جاءَ وحين قَدَّمَ نَفْسَهُ
للأرضِ، فَاضَتْ خضرةٌ ومياهُ
فَرْدٌ من البَشَرِ المُعَطَّلِ، إنَّما
ما انفكَّ يعملُ في يديهِ اللهُ
ما الشِّعرُ إلَّا الفيضُ.. فيضُ ألوهةٍ
في فكرةٍ.. فإذا الكلامُ إلهُ
والحبرُ ليسَ سوى مَمَرٍّ آمِنٍ
كي يهربَ الإنسانُ من بلواهُ
والكونُ لعبةُ شاعرٍ مُتَوَرِّطٍ
بالخلقِ منذُ تَأَلَّهَـتْ كَفَّاهُ
لم يلتفتْ للأوَّلينَ كأنَّهُ
بدءٌ، وثَمَّةَ لا وراءَ وراهُ!
ينتابُهُ هَوَسٌ بكلِّ ولادةٍ
تفتضُّ عن حُلْمِ الحياةِ غِشَاهُ
ينتابُهُ هَوَسٌ بكلِّ طفولةٍ
تمتصُّ من صدرِ الوجودِ أَسَاهُ
في كلِّ قافيةٍ تَجِدُّ بدايةٌ
للخلقِ تجمعُ أُمَّهُ وأَبَاهُ
ما شَعَّ مصباحُ القصيدةِ في المدى
إلَّا وصادفَ (آدمٌ) (حَـوَّاهُ)
* * *
كالوقتِ جاءَ.. يَشُفُّ عبرَ حضورِهِ
حتَّى يُظَنَّ حضورُهُ أَخفَاهُ
حُلْمٌ كحُلْمِ الأنبياءِ مُحَصَّنٌ
ضدَّ الهباءِ فـمَنْ رَآهُ رَآهُ!
لم يختبئْ في الصوتِ.. خَبَّأَ نفسَهُ
ما بين نبرةِ صوتِهِ وصداهُ
نشوان يحملُ قلبَهُ في رأسِهِ
ويُضِيءُ فكرتَهُ بـزيتِ مُنَاهُ
تَتَفَتَّحُ الصَّبَوَاتُ في كلماتِهِ
حتَّى يُعيدَ إلى الكلامِ صِبَاهُ
لَهَبُ السليقةِ جامحٌ في روحِهِ
ونقاؤُها مُتَدَفِّقُ بِـدِمَاهُ
يحيا بأبياتِ المطالعِ كلَّما
- في مطلعٍ - نَفَخَ الإلهُ شَذَاهُ
ويموتُ في البيتِ الأخيرِ بـنَصِّهِ
ويعودُ يُبعَثُ من لظَى (عنقاهُ)
لحنٌ أضاعَ من القبيلةِ لحنَها
وأشاحَ عن إيقاعِها بِـغِنَاهُ
ماضٍ على ما تشتهي أوتارُهُ..
مُتَتَبِّعٌ إيقاعَ مُوسِيقَاهُ!
ماضٍ، وتنطلقُ الحياةُ أمامَهُ
مهما أدارَ إلى الحياةِ قَفَاهُ
يحدو الأَجِنَّةَ في الطريقِ إلى غَدٍ
ضاحٍ أفاقَ على انهيارِ دُجَاهُ
مُتَيَقِّنٌ أَلَّا انعكاسَ لوجهِهِ
ما لم يُضِئْ مرآتَهُ بِرُؤَاهُ
مُتَبَدِّلٌ فيما تُبَدِّلُهُ الرُّؤَى
منهُ، فما تجترُّهُ الأشباهُ
نَسَفَ الوصايا حيث كلُّ وَصِيَّةٍ
جبلٌ يسدُّ بـوجهِهِ ممشاهُ
رهطٌ من الأسلافِ في وجدانِهِ
يتقاتلونَ على احتلالِ سَمَاهُ
حتَّى إذا هَوَتِ الرؤوسُ جميعَها
لم يبقَ إلَّا رأسُهُ مولاهُ
سَحَبَتْهُ روحُ الفَرْدِ من أسلافِهِ
مثل انسحابِ السيفِ من قتلاهُ
واجتازَ فَخَّ الانتماءِ كـطائرٍ
حُرٍّ يرى كلَّ الفضاءِ فَضَاهُ
* * *
كالوقتِ جاءَ وكلَّما رَكَلَ المدى
تتدحرجُ الأزمانُ بين خُطَاهُ
أفضَى إلى الدنيا ولم يكبرْ بها
لكنَّما كَبُرَتْ بِهِ دنياهُ
اسمٌ بحجمِ الأرضِ وَزَّعَ ذاتَهُ
في ذاتِها فتَعَدَّدَتْ أسماهُ
مُتَشَجِّرٌ بالكائناتِ.. وإنْ نَأَى
في عُزْلَةٍ خضراءَ من (طُوبَاهُ)
لم يجترحْ إلَّا العبارةَ عَالَمًا
يبني مدائِنَهُ بها، وقُرَاهُ
لا يحتفي بالنهرِ في كلماتِهِ
حتَّى يشقَّ بـصدرِهِ مجراهُ
كالجذرِ إمعانًا بعُمقِ ترابِهِ
كالنخلِ إيمانًا بعشقِ ثَرَاهُ
رَفَعَ الحجارةَ من جداولِ روحِهِ
كي لا يضيقَ بـجدولٍ شَطَّاهُ
أَبَدًا يُؤَوِّلُ نفسَهُ مُتَجَرِّدًا
منها فـيُوشِكُ أنْ يكونَ سِوَاهُ
يزدادُ كَيلَ تَأَمُّلٍ في ذاتِهِ
مقدارَ ما يزدادُ كيل شَقَاهُ
ما خانَ موهبةَ التَّنَفُّسِ حينما
غَمَسَتْهُ - في أعماقِـها - رُؤْيَاهُ
قالتْ لهُ الأعماقُ كلَّ حكايةٍ
دارتْ بـذهنِ البحرِ عن غرقاهُ
ساجٍ بمأتمِهِ الكبيرِ كأنَّهُ
عَدَمٌ يُؤَثِّثُ بالردى سُكناهُ
مُتَوَضِّئٌ بالذنبِ ذنبِ وجودِهِ
في عالمٍ ألفَى بِهِ مبكاهُ
زيتُ القناديلِ الحزينةِ زيتُهُ
وضياءُ مشكاةِ الهمومِ ضِيَاهُ
كلُّ الذينَ تَفَرَّقُوا بمجاهلٍ
في البؤسِ، لَمَّتْ شَمْلَهُمْ نجواهُ
وجميعُ (أشياخِ الطرائقِ) خَيَّمُوا
في قلبِهِ، وتَصَوَّفوا بـدِمَاهُ
يجتاحُهُ وَجَعُ الحقيقةِ كلَّما
سَقَطَتْ على قاعِ الخليقةِ آهُ!
أنفاسُ كلِّ المتعبينَ هواؤُهُ
فتكادُ تُحْرِقُ نايَهُ، رئتاهُ
* * *
كالوقتِ جاءَ.. مُعَلِّقًا في صوتِهِ
جُرحَ العصورِ مُضَرَّجًا بـرِثَاهُ
ملآن بالفرحِ المريرِ كأنَّهُ
عيدٌ ولكنْ جَفَّ من حَلْوَاهُ
يَلقَى المصائرَ بـ(السجائرِ) حاملًا
درعَ (الدخانِ) أمامَ سَهمِ قَضَاهُ
أوحَى إليهِ الشعرُ في صبواتِهِ
أنَّ الحياةَ جديرةٌ بـهَوَاهُ
فمضى إلى (طوقِ الحمامةِ) طازجًا
كالحُلْمِ، يسبحُ في رقيقِ نَدَاهُ
كلماتُهُ الْتَصَقَتْ بهِ فتَمَثَّلا
ذَكَرَ اليَمامِ مُغَازِلًا أُنثَاهُ!
وحنا على الكلماتِ يدهنُ جِلدَها
بالشَّوقِ حتَّى تكتسي بصَفَاهُ
وبنَى بأَحْرُفِهِ لكُلِّ جميلةٍ
(بيتَ القصيدِ) فـضَمَّها (شَطْرَاهُ)
ما مَلَّ من لَحْمِ الحياةِ فحيثما
أَلْفَاهُ شَبَّ غرامَهُ وشَوَاهُ
مُتَلَأْلِئٌ بضلالِهِ في رحلةٍ
بين الجدائلِ، مُعْتِمٌ بـهُداهُ!
يزهو كما يزهو المجازُ بـفكرةٍ
والحبُّ يأخذُهُ إلى مقهاهُ
يُلقي على الدنيا رداءَ غرامِهِ
مقدارَ ما هُوَ يرتدي (ليلاهُ)
ما انسلَّ من شجرِ العناقِ بـموعدٍ
حتَّى تدلَّى في يديهِ جَنَاهُ
أَغْرَتْ بهِ شفةٌ تُدَلِّكُ أُختَها
وأثارَهُ نهدٌ يجسُّ أخاهُ
الصدقُ كلُّ الصدقِ في شهواتِهِ
والزيفُ كلُّ الزيفِ في تقواهُ
كلُّ الجميلاتِ احْتَطَبْنَ ضلوعَهُ
بالأمسِ، ثُمَّ تَرَكْنَهُ لِـشِتَاهُ
ما العشقُ؟
قِيلَ لهُ.. فقالَ: طريقةٌ
كي نصطفي من مَوتِنَا أَشهاهُ
خَرَقَتْ حبيبتُهُ سفينةَ جَفنِهِ
عَبَثًا لـتُغْرِقَهُ بـبحرِ بُكَاهُ
والفاتناتُ قَضَمْنَ كعكةَ قلبِهِ
ثُمَّ انْعَطَفْنَ على رحيقِ حَشَاهُ
ما إنْ يَصُكَّ رؤوسَنا بقصيدةٍ
حتَّى يسيلَ من الرؤوسِ شَجَاهُ
يَتَفَتَّحُ الغَزَلُ الخصيبُ فلا نرى
إلا الظباءَ تجوسُ في مرعاهُ
غَزَلٌ مُسِيلٌ للضلوعِ، مُفَخَّخٌ
بالوجدِ حتَّى عنفوانِ لَظَاهُ
* * *
مُتَجَوِّلٌ كالريحِ في ملكوتِها
حُرٌّ تُرَبِّي العاصفاتِ يداهُ
مُتَوَغِّلٌ في جُحْرِ كلِّ حقيقةٍ
حتَّى يُعَرِّي الجُحْرَ من أَفْعَاهُ
مُتَتَوِّجٌ بالفوضويَّةِ.. صانعٌ
من نفسِهِ مَلِكًا على فوضاهُ!
يُصغي إلى عُمقِ الخليقةِ مثلما
يُصغي الغريبُ إلى حديثِ حِمَاهُ
يُصغي فيسمعُ في الجذورِ حنينَها
للضوءِ، مِمَّا أُرْهِفَـتْ أُذُنَاهُ
سارٍ إلى حيثُ المسافرُ لم يَصِلْ
يومًا، ولا استوفَى حقوقَ سُـرَاهُ
سفرٌ يطولُ.. وحيثُ عَرَّى كونَهُ
في القافياتِ، وكونُهُ عَرَّاهُ
ألفَى أناهُ تدورُ حول وجودِهِ
ورأى الوجودَ يدورُ حول أناهُ
محرَّم 1437هـ
- شعر/ جاسم الصحيح